إشكالية "التأويل والتفسير" بين الفكر العربي والفكر الغربي


بسم الله الرحمن الرحيم

تكمن أهمية هذا البحث في سعيه لإبراز الجانب المهم للتأويل والتفسير عندما نخوض في القراءة لفهم النصوص المختلفة، ولطالما كان الشقاق والاختلاف من سوء في معالجة النص وفهمه، ولو أننا وجدنا آليات سليمة نفهم من خلالها النصوص فهما مستقيما؛ لكان اختلافنا بعد ذلك اختلافا مثمرا مفيدا.

وبما أن كلا من الفكر العربي والفكر الغربي له جهوده في مجال التأويل والتفسير، فإنه حري بنا أن نعرف طبيعة هذا التأويل عند كل فريق، وأن نُدرك مدى الاتساق والاختلاف بينهما، وهذا ما أرنو إليه في هذا البحث.

التفسير والتأويل في الفكر العربي

- التفسير لغة مأخوذ من مصدر " فَسر "، بمعنى الإيضاح والتبيين، يقال: استفسرته كذا، أي: سألته أن يفسره لي. 1

وقال أهل البيان: التفسير هو أن يكون في الكلام لبس وخفاء، فيؤتى بما يزيله ويُفسره. 2

- التأويل مأخوذ من " أَوَّل "، وهو مبتدأ الشيء، يقال: أوّل الحكمَ إلى أهله، أي: أرجعه ورده إلى أهله. 3

وقد عرَّف الراغب الأصفهاني التأويل بأنه "رد الشيء إلى الغاية المرادة منه، علمًا كان أو فعل". 4

وعُرِّف متأخرًا بأنه صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى أرجح منه لوجود قرينة ودليل يقتضي ذلك.

وقد اختلف العلماء في التفرقة بين التفسير والتأويل كثيرا، ونستطيع أن نستخلص أهم الآراء فيما يأتي:

1- إذا قلنا: إن التأويل هو (تفسير الكلام وبيان معناه)، فالتأويل والتفسير على هذا متقاربان أو مترادفان، ومنه دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".

2- وإذا قلنا: إن التأويل هو (نفس المراد بالكلام)، فتأويل الطلب _مثلا_ هو نفس الفعل المطلوب، وتأويل الخبر نفس الشيء المُخبر به..

فعلى هذا يكون الفرق كبيرًا بين التفسير والتأويل؛ لأن التفسير شرح وإيضاح للكلام, ويكون وجوده في الذهن بتعقله، وفي اللسان بالعبارة الدالة عليه، أما التأويل فهو نفس الأمور الموجودة في الخارج، فإذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا هو نفس طلوعها، وهذا هو الغالب في لغة القرآن كما تقدم، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}، فالمراد بالتأويل هو وقوع المُخبر به.

3- وقيل: التفسير: أكثر ما يُستعمل في الألفاظ ومفرداتها، والتأويل: أكثر ما يُستعمل في المعاني والجُمل - وقيل غير ذلك..

4- وقيل: التفسير: ما وقع مبيَّنًا في كتاب الله أو مُعيَّنًا في صحيح السٌّنَّة؛ لأن معناه قد ظهر ووضح، والتأويل ما استنبطه العلماء، ولذا قال بعضهم: "التفسير ما يتعلق بالرواية, والتأويل ما يتعلق بالدراية".1

ونحن نميل إلى هذا الرأي الأخير، لأنَّ التفسير معناه مجرد الكشْف والبيان، أما التأويل فلا يكتفي بالكشف فقط؛ بل يقوم بترجيح أحد ما يبينه بالدليل والقرينة. ولعلنا نلاحظ أن التفسير غالبًا ما يكون في بيان مفردات الألفاظ، وأن التأويل غالبا ما يوجد في الكتب الدينية والإلهية. وإذا أخذنا ابن رشد مثالا للفكر العربي؛ فإننا نجده يقول بضرورة التأويل المكتمل شروطه، وأنه يعتبره سبيلا سليما في فهم النصوص لأنه يعتمد في حركته التأويلية على البرهان العقلي الذي يُعد من أسلم طرق الوصول للحقيقة؛ بل من أسلم الطرق للوصول لمعنى المعنى نفسه، ولهذا نجد ابن رشد يقول عن هذا النوع من التأويل المكتمل شروطه أنه "لا يكون إلا على الحقيقة".

التفسير والتأويل في الفكر الغربي

إنّ الهدف من الكتابة هو أن نقرأ ما يُكتب، وقيمة الكتاب لا تبرز إلاّ حينما يتناوله الجمهور بالقراءة؛ أي حينما يتحول الدال إلى مدلول، عن طريق فك الشفرات أو الرموز من قِبَل القارئ. وهذه العملية –عملية فك الشفرة أو الرمز- وتحوّلها من دال إلى مدلول؛ هي بالضبط ما يسمى بالقراءة. 2

وقد تطورت الدراسات الغربية تجاه الاهتمام بالقارئ، وتحديد مفاهيم قراءته، وبيان معانيها من خلال قيام طريقتين في هذا المجال، هما:

1.    السيموطيقا.

2.    الهرمنيوطيقا .

أولا: السيموطيقا (علم العلامات، الشكليات)

يُعرَّف العلم الذي"يهتم بدراسة أنظمة العلامات: اللغات، وأنظمة الإشارات، والتعليمات، إلخ" بــ السيميائيات أو السيموطيقا.

ولكنا أمام مصطلحين:

- السيميولوجيا لدى الأوربيين، ويرتبط بدوسوسير الذي استعمله في كتابه (محاضرات في اللسانيات العامة) سنة 1916م.

-ومصطلح السيميوطيقا لدى الأمريكيين الذي يقترن ببيرس الذي استعمله باسم علم الدلالة العام.

فتمسك الأنكلوسكسونيون بالسيميوطيقا. في حين، اختار الأوروبيون السيميولوجيا. ويمكن أيضا التفريق بينهما بشكل دقيق، فنقول: إن السيميولوجيا عبارة عن نظرية عامة وفلسفة شاملة للعلامات، أو هي بمثابة القسم النظري. في حين، تعد السيميوطيقا منهجية تحليلية، تشغل في مقاربة النصوص والخطابات والأنشطة البشرية تفكيكا وتركيبا، وتحليلا وتأويلا، أو هي كذلك بمثابة القسم التطبيقي للسيميولوجيا.

وقد قدم معجم الموسوعي "هاشتي" تعاريف وتفاريق واضحة بين هذه المصطلحات، بحيث:

عرف "السيميولوجيا" بأنها: علم يدرس العلامات وأنساقها داخل المجتمع.

وحدد "السيميوطيقا" بأنها: النظرية العامة للعلامات، والأنظمة الدلالية اللسانية، وغير اللسانية.

وحدد السيميائيات بأنها: دراسة اللغة من زاوية الدلالة.

ويعرف الأوكسفورد هذا المصطلح بأنه: دراسة معاني الكلمات.

ومعنى هذا كله أن السيميولوجيا علم، والسيميوطيقا نظرية، والسيميائيات دراسة أو منهج نقدي. 1

وتسعى السيموطيقا إلى اكتشاف البنيات العميقة الثابتة، وترصد الأسس الجوهرية المنطقية التي تكون وراء سبب اختلاف النصوص والجمل والملفوظات والخطابات.

ومن ثم، فالسيميوطيقا لا يهمها ما يقول النص، ولا من قاله، بل ما يهمها هو كيف قال النص ماقاله.

أي: إن السيميوطيقا لايهمها المضمون ولا حياة المبدع أو سيرته، بقدر ما يهمها شكل المضمون.

وتستمد السيميوطيقا، باعتبارها منهجا للتحليل، أصولها من اللسانيات والبنيوية والفلسفة والمنطق.

ثانيًا: الهرمنيوطيقا (علم التأويل)

التأويل بتعبير غربي: هو محاولة التوضيح والقبض -عن طريق الفكر- على مواضيع وأحداث ومسائل تبدو مركبة وغامضة وفضفاضة وهلاميّة. أو أن نرتقي من علامة إلى دلالتها. أو هو البحث عن المعنى العميق فيما وراء المعنى الظاهر.1  

والهرمنيوطيقا هي طريقة لحلّ وفك الرموز؛ هي طريقة في شرح الغامض من النصوص وبيان المعاني التي تحتملها، وهي تمتد من شرح وتفسير النصوص الدينية إلى شرح وتفسير النصوص غير الدينية كالظواهر الفنية والأدبية. هذه الهرمنيوطيقا لا تتخذ من "الأسطورة" و"الرمز" موضوعاً لها وحسب، بل وتتضمن مقدّمات فلسفية أيضاً. إنّها تهدف إلى إقامة أنثروپولوجيا فلسفية هدفها الأول والأساسي تأسيس منهج أو طريقة تأويلية ذات قيمة عالمية ما يسمى بالهرمنيوطيقا الكلية أو الشاملة ( تشمل المقدس وغير المقدس). إنّها "علم التأويل". وإذا شئنا أن نمنحها تعريفاً عاما وشاملاً قلنا إنّها تمثِّل "نظرية تأويل النصوص.2

وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اقترح "فردريك شلاير ماخر" تفكيراً تجديدياً للتأويل يشمل كلّ النصوص التي اعتراها الغموض بسبب بعد المسافة التاريخية والنفسية التي تفصلنا عن النص. لم يعد المعنى متوارياً لأنّه معنىً مقدس، بل لأنّ هناك اختلافاً في المسافة التاريخية والثقافية التي تفصل بين زمننا وزمن النص الذي كُتب فيه. من هذا المنطلق لم تعد الهرمنيوطيقا تفسيراً للنصوص المقدسة فقط، بل «أصبحت» علم تأويل العلامات، وبذلك أصبح التأويل يشمل كلّ النصوص دينية وغير دينية، علمية وأدبية. وبعد، فإنّ "شلاير ماخر" يرى أنّ المجازفة الحقيقية في التأويل هي أن نفهم مؤلف النص أكثر من فهمه هو لذاته.1

واعتبر "ماخر" من الرواد الذين نقلوا التأويل من المجال الديني إلى العلوم الإنسانية، إذا اعتبره "نصر أبو زيد" مؤسس علم تأويل عام؛ هو علم الفهم الذي ينطلق من الخطاب الشفهي، وليس من النصوص، ويمحور مسألة الفهم على المتكلم الأجنبي، وعلى ذاتية المؤلف، واضعا بذلك التفسير النفسي أو التقني، إلى جانب التفسير النحوي.2  

ويعتبر هانس جورح كادامر، أبو التأويلية الحديثة، صاحب كتاب "الحقيقة والمنهج" الذي أشار فيه إلى تأسيس تأويلية مختصة بعلوم الإنسان، رافعا من تاريخية الفهم البشري إلى مكانة المبدأ، فالأفكار والأحكام المسبقة التي يأخذها المفسر من انتمائه إلى تاريخ وثقافة وتراث معين، هي التي تشكل له جذور الفهم ومرتكزاته، لذا ينبه على التبصر النقدي لهذه الأحكام المسبقة حتى يتبين صحيحها من سقيمها.3

خلاصة وتعقيب:

يمكننا من خلال ما سبق أن نستنتج العلاقة بين التفسير والتأويل في الفكرين (الغربي والعربي):

1.     فنجد أن التفسير بمعناه في الفكر العربي قد شابهه "السيموطيقا" في الفلسفة الغربية، حيث يسعى كلا منهما إلى إزالة اللبس عن المفردات والكشف عنها شكليًا فقط دون الاهتمام بفحوى الخطاب ومضمون النص.

2.    ونجد أن التأويل بمعناه العربي قد شابهه الهرمنيوطيقا في جانبه التحليلي الذي يعتمد على النقد المدعم بالأدلة والقرائن.

3.    وإذا قارنا بين الفكر العربي متمثلًا في "ابن رشد"، وبين الفكر الغربي متمثلا في "شلاير ماخر"، نجد أن هناك اتفاقا يكاد يكون مطابقًا في الهدف من التأويل، وهو: فهم الغرض كما عُبر عنه من خلال النص.

******************************


المصادر والمراجع:

-معجم مقاييس اللغة: ابن فارس.

-التفسير والتأويل: صلاح عبد الفتاح الخالدي.

-المفرددات: للأصفهاني.

-مباحث في علوم القرآن: مناع بن خليل القطان.

-سيميائية النص المقدس - جزء من مسودة كتاب القول الثقيل، عادل الجمل.

-مليكة دحمانية: أطروحة دكتوراة: فصول في القراءة والتأويل من خلال نماذج غربية معاصرة.

-نصر حامد أبو زيد: إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة السادسة 2006.

-التفسير والمفسرون: محمد السيد حسين الذهبي .

-الاتجاهات  السيميوطيقية  - التيارات والمدارس السيميوطيقية في الثقافة الغربية، الدكتور جميل حمداوي.

-إشكالية التأويل في الفكر الغربي و الفكر العربي، عماري مصطفى.

-استقبال النص عند العرب، محمد مبارك.

-الإتقان في علوم القرآن، السيوطي.

-دلالات التأويل في التداول المعرفي الغربي، محمد علواش.

_______________________
الهامش:
1 (معجم مقاييس اللغة لابن فارس، صــ504،جـ4).


2 (الكليات لأبي البقاء صــ260) ، (التفسير والتأويل لصلاح عبد الفتاح الخالدي، صـ24)

3 (معجم مقاييس اللغة لابن فارس، صــ160،جـ1). (التفسير والتأويل لصلاح عبد الفتاح الخالدي، صـ30)

4 (المفرددات للأصفهاني، صــ99).

1 مباحث في علوم القرآن المؤلف: مناع بن خليل القطان، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة 2000م، صــ37

2 مليكة دحمانية، أطروحة دكتوراة: فصول في القراءة والتأويل من خلال نماذج غربية معاصرة، صــ24 ، كلية الآداب الجزائر 2010.

1 سيميائية النص المقدس - جزء من مسودة كتاب القول الثقيل، عادل الجمل صــ12.

1 مليكة دحمانية، أطروحة دكتوراة: فصول في القراءة والتأويل من خلال نماذج غربية معاصرة، صــ44 ، كلية الآداب الجزائر 2010.

2  مليكة دحمانية، أطروحة دكتوراة: فصول في القراءة والتأويل من خلال نماذج غربية معاصرة، صــ48 ، كلية الآداب الجزائر 2010.

1 مليكة دحمانية، أطروحة دكتوراة: فصول في القراءة والتأويل من خلال نماذج غربية معاصرة، صــ52 ، كلية الآداب الجزائر 2010.

2 نصر حامد أبو زيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة السادسة 2006، صــ13.

3 دلالات التأويل في التداول المعرفي الغربي، محمد علواش، صــ8.

 


إرسال تعليق

تعليق:

أحدث أقدم

نموذج الاتصال