ابن رشد الحفيد.. فيلسوف البرهان!


أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد (520 هـ- 595 هـ) (مواليد 14 إبريل 1126م، قرطبة - توفي 10 ديسمبر 1198م، مراكش) ، واشتهر باسم ابن رشد الحفيد تمييزا له عن جده: أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المشهور بابن رشد الجد (مواليد 450 هـ / 1058م - توفي 19 ذو القعدة 520 هـ / 6 ديسمبر 1126 م) شَيْخُ الْمَالِكِيَّةِ وقاضي الجماعة بقرطبة.

لُقب ابن رشد بـ "المعلم الثاني" لشرحه كتب أرسطو "المعلم الأول". حظيت فلسفة ابن رشد بالاهتمام الكبير، والمبالغ فيه أحيانًا، حتى قامت مدرسة غربية فلسفية مبنية على تفسيرات ابن رشد لأرسطو، هذه المدرسة لطالما عُرفت بــ "الرُشدية" نسبة لابن رشد. ثم غدت فلسفة ابن رشد عند الكثيرين من أتباعه كأنها (الحقيقة المطلقة) في طريق التنوير والتقدم والحداثة، وأخذوا يندفعون إلى التغني بالحداثة والتقدم ونبذ القديم، إلا أنهم حينما يدعون إلى رؤية مستقبلية بعين الواقع المُعاش؛ يقعون في مشكلة الأصولية القديمة، أو بالأحرى الاعتماد على الموروث الفكري القديم لإيجاد حلول للزمان الحديث.

كان أتباع ابن رشد غارقون في هذه المشكلة عندما نظروا إليه نظرة تقديس تنويرية حديثة.

إنه وإن كان ابن رشد فيلسوفا للتنوير، إلا أن هذا التنوير والتقدم مرتبط بعصره وزمانه، فهو تنويري مقارنة بالحالة التي كانت تُعاش في القرن السادس، فظروفه التاريخية حاكمة على تنويريته بالزمكانية أكثر منها بالحداثة والمعاصرة. وهذا ما أكد عليه مدحت صفوت في دراسته لابن رشد.

لقد رأى مدحت صفوت أن "الشبحية" (التوهم الذي يسكن في لاوعينا الفكري)، تسيطر على كثير من أتباع الرشدية حديثا، فهم يُخرجون ابن رشد من إطاره الذي وضع فيه فلسفته ورؤيته الخاصة ليجعلوا منهما المرجع الفريد للرؤية النهاضة المنشودة. بل إن شبحية أبو حامد الغزالي نفسه تسيطر على ابن رشد ذاته أحيانًا كثيرة. 

هل يمكن تبرير الإيمان عقليا؟

ابن رشد يعتقد أنه يمكننا ذلك، لكنه يقصر ذلك في ضوء الفلسفة والبرهان العقلي، ولكنا نرى أن هذا جانب الحقيقة الفلسفية، لأن الفلسفة أحكامها برهانية وجدلية في نفس الوقت، وأرسطو الذي تأثر به ابن رشد قد استعمل الأدوات الجدلية والخطابية أيضا مع البرهانية في كتبه، وابن رشد يعترف بذلك في كتابه تهافت التهافت، ولكنه في فصل المقال يدعو للبرهان بوصفه الأتم والأكمل.

يعتقد مدحت صفوت أن الإسلام خالٍ تماما مما يسمى بـ "الكهنوت"، نظريًا، ولكننا عندما ننظر للممارسة الفعلية في تاريخ المفكرين والإسلاميين نرى أن الكهنوت يتجلى في فكرهم الخاص ورؤيتهم للإسلام.

ويرى مدحت صفوت أن ابن رشد وقع في هذا الأمر عندما قرر أن المتشابه لا يؤول لعامة الناس ممن ليسوا من أهل البرهان، وأن تأويله لهم يُفضي بهم إلى الكفر.. وهذا الأمر قد خاض الغزالي فيه أيضا حينما جعل الناس : عوام لا يدركون الفلسفة والمتشابه، وخواص هم أهل العقل والعلم.

هذا الأمر الذي جعل مدحت صفوت يعتقد أن شبح الغزالي ما زال مسيطرا على ابن رشد في فصل المقال؛ حتى تشابهت رؤيتهم للناس. فالغزالي يقصر المعرفة اليقينية على العرفان، وابن رشد على البرهان، لكنهما في النهاية يتفقان على الاقتصار على فئة واحدة دون بقية الناس .

ومن مظاهر شبح الغزالي على ابن رشد أنه يكفر المجتهد المخطئ من غير أهل البرهان ! لأنه لم تتوفر فيه شروط البرهان والاجتهاد للوصول لإصدار الحكم.

يرى مدحت صفوت أن الاقتصار في التأويل على فئة معينة دون بقية الناس يُعد تعصب ودوجماتية مما ينسف الادعاء بالانفتاح، لأنها تتخذ من العقل سبيلا لتبرير الإيمان أو النص الشرعي الذي يخالف ظاهره الحكمة.

لكنا نرى أن ابن رشد تعامل مع البرهان العقلي كمبدأ لفهم النص، وأكد أنه لابد من توافر شروط البرهان الصحيح، وهكذا فإن البرهان المكتمل شروطه لا يبرر نصا شرعيا مخالفا الحكمة ، لأن البرهان -حينذاك- سياج الحكمة العقلانية الأصيلة، وإنما يلجأ بالبرهان للتأويل عند تعثر ظاهر  نص معين، يُخالف أصل نص معين آخر ثابت، في نفس الموضوع والمسألة، وهكذا فلا يُعد تبريرا للنص الديني ، وإنما هو إظهار للمعنى المنشود؛ الأقرب لباقي النصوص الأخرى في نفس الموضوع، والأقرب للبرهان العقلي المكتمل.

 وعليه تكون صحة التأويل مُدلل عليها بالعقل والنقل. وهذا خلاف التبرير الذي يخرج من تصورات لا ترتقي إلى اليقين، ويستند إلى أدلة هزيلة وضعبفة، سواء أكانت عقلية أو نقلية، ومن هنا لا يُعوّل على التبرير وإنما يُعوّل على البرهان، لأنه كما يقول ابن رشد إذا اكتمل شروطه فهو "لا يكون إلا على الحقيقة".


 


إرسال تعليق

تعليق:

أحدث أقدم

نموذج الاتصال