فلسفة الغناء





الله عز وجل قد خلق الإنسان بصبغة الشعور والإحساس؛ فهو يميل بطبيعته إلى المستلذات ، ولما كانت هذه طبيعته قد أحكم الله عز وجل الأمور وضبطها بمعاييره العادلة التي لا تؤثر على الإنسان تأثيرًا يُذهب بعفته وكرامته.

كان من بين ما يستلذ به الإنسان "الغناء والموسيقى"، فما حكمهما في نظر الشريعة والعلماء؟ وكيف ضبطا بميزان الإسلام؟

((الغناء: كلام.. ولحن.. وأداء..))

من يُحرمون

ذهب البعض إلى أن الغناء والموسيقى حرام، وذلك لعدة أمور:

1. مجيء القرآن بالتحريم حين قال في سورة لقمان: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ".

وفسروا "لهو الحديث" بأنه الغناء والموسيقى.

2. جاء في القرآن: "وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا"

وفسروا "الزور" بالغناء.

3. ما جاء في السنة منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ ".

وقالوا أن المعازف حرام بنص الحديث.

هذا ما ذهب إليه المحرمون للغناء والموسيقى، وعلى هذه الأدلّة أقاموا الحكم بالحرمة وحظر السماع . لكن هناك من يرى خلاف هذا الرأي من العلماء أيضًا؛ فقد ذهب للإباحة كثير من العلماء وكان القرآن والسنة حجتهم في مذهبهم .

من يُبيحون

اتجه هذا الفريق إلى أن الغناء مُباح لا دليل قطعي على تحريمه وحظره، وكانت أدلتهم على موقفهم هذا هي:

1. أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل على التحريم والحظر.

2. أن النبي جاء يحل لنا الطيبات ويحرم علينا الخبائث والمنكرات "وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ"

والطيبات هي المستلذات المباحة كما قاله الشوكاني عن ابن عبد السلام في نيل الأوطار.

3. عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكرٍ وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنِّيان بما تقاوَلَت الأنصارُ يوم بُعاث، قالت: وليستا بمغنِّيَتَين، فقال أبو بكر: أمزاميرُ الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وذلك في يوم عيدٍ

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكرٍ، إنَّ لكلِّ قوم عيدًا، وهذا عيدُنا»

المعنى الإجمالي للحديث:

في يوم عيدٍ للمسلمين دخلَ أبو بكر الصديقُ على ابنته عائشة رضي الله عنهما، فوجد عندها جاريتين منَ الأنصار صغيرتَين في السِّنِّ، تنشدان بعضَ الأشعار عن يوم بُعاث، وهو يوم مشهورٌ من أيام العرب كانت فيه مقتَلة عظيمة للأوس على الخزرج، وتصِفان ما كان فيه من الحرب والشجاعة.

فأنكَر الصديقُ رضي الله عنه على الجاريتين ذلك؛ وقال: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فرخَّص النبي صلى الله عليه وسلم في فعل الجاريتين؛ معلِّلًا ذلك بقوله: «يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا».

4. عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: "أنَّها زَفَّتِ امْرَأَةً إلى رَجُلٍ مِنَ الأنْصارِ، فقالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا عائِشَةُ، ما كانَ معكُمْ لَهْوٌ؟ فإنَّ الأنْصارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ".

الرد على أدلة المانعين

- الرد على الدليل الأول: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ".

رد المجوزين للغناء على هذا الدليل بأن "لهو الحديث" هنا ليس المقصود منه الغناء؛ بل عموم اللهو، وعموم اللهوي مباح إلا أن يُشغل عن واجب، ويدل على ذلك قوله تعالى " لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ" ، فقد قرن الله عز وجل اللهو المذموم بأنه مشغلة عن الواجب وذريعة للباطل والإضلال عن سبيل الله والحق.

ولو كان الغناء هو اللهو لصرح به وما كان قرنه بالإضلال عن سبيله، لأنه جاءت أدلة على إباحة عموم اللهو منها: " عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: "أنَّها زَفَّتِ امْرَأَةً إلى رَجُلٍ مِنَ الأنْصارِ، فقالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا عائِشَةُ، ما كانَ معكُمْ لَهْوٌ؟ فإنَّ الأنْصارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ". فاللهو هو مطلق الوسائل التي تُحدث الأنس واللذة في الإنسان.

- الرد على الدليل الثاني: "وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا".

رد على تفسير الزور في الآية بأنه الغناء: بأن هذا ليس بتفسير سليم، فالزور هو الكذب وقد جاء مقترنا بالشهادة في قوله " وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ" ، والمعنى أن المقصود هو شهادة الزور ليست من صفات المؤمنين بالله.

- الرد على الدليل الثالث: " لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ ".

وهذا حديث منقطع علّق عليه ابن حزم بقوله: "ولم يتصل بين البخاري وصدقة بن خالد وإنما علقه البخاري فلا حجة فيه".

وإن كان البعض يستشهد بأحاديث أخرى في هذا الباب ليقوي بها هذا الحديث في تحريم الغناء؛ إلا أننا نفترض _جدلًا_ صحة الحديث، ويكون المعنى على خلاف ما أرادوا من أن عموم المعازف حرام؛ لأن الأدلة قد بيّنت أن هناك أنواع مباحة من العزف منها الدف ،ويعلق الدكتور محمد عمارة على الحديث بقوله: "وأنا أضيف إلى القدح في إسناد هذا الحديث، أنه يتكلم عن قوم يستحلون الزنا والخمر، ويقرنون مجالس الزنا والخمر هذه بالمعازف، التي أصبحت عونا على الكبائر والفواحش.. فليست المعازف هنا مفردة، ولا مرادة لذاتها".

ويتابع: "وأنا أضيف إلى نقد ابن حزم للسند: أن المعازف والقينات هنا قد وظفت في مجلس الخمر والزنا، فأصبحت عونا على مقارفة الكبائر والخبائث، فحرمتها لما عرض لها، وليس لذاتها إذا هي وظفت في الترويح البريء عن النفس والقلب، وتجديد ملكات وطاقات الإنسان لتزداد كفاءته في النهوض برسالته في عمران الحياة الدنيا".

وكما حكى الدكتور عمارة عن الفقهاء:

- فروي عن الإمام أبي حنيفة النعمان "80 ـ 150 هـ ، 699 ـ 767 م" كراهة الغناء، بينما العنبري، عبيدالله بن الحسن العنبري "105 ـ 168 هـ ،723 ـ 785 م" القاضي والفقيه والمحدث لا يرى به بأسا.

- ولقد روي عن الإمام مالك بن أنس "93 ـ 179 هـ 712 ـ 795 م" تحريم الغناء، في حين كان قاضي المدينة ومحدثها الزهري، إبراهيم بن سعد "183 هـ، 799 م" لا يرى به بأسا.

- وروي عن الإمام الشافعي، محمد بن إدريس "150 ـ 204 هـ، 767 ـ 820 م" أنه مكروه يشبه الباطل.

- وروي عن الإمام أحمد بن حنبل "164 ـ 241 هـ، 780 ـ 855 م" في الغناء ثلاث روايات: الحل، والكراهة، والحرمة.

وإذا كان غير معقول ولا وارد تضارب وتناقض الفتاوى عند الإمام الواحد، وفي المذهب الواحد، والعصر الواحد، والمدينة الواحدة، للون واحد من الغناء.. فإن المتبادر إلى العقل الفقهي هو أن تعدد الفتاوى قد نتج عن تعدد ألوان الغناء الذي سئل الفقهاء عن حكمه، فالإفتاء بالحل، أو بأنه لا بأس به كان عن الغناء المباح، والتحريم كان للغناء الحرام، والكراهة، كانت للغناء المكروه.

ويشهد لذلك أن تحريم الإمام مالك إنما كان، تحديدا، للغناء المحرم، إذ المروي عنه أن جوابه إنما كان عن سؤال عن الغناء الذي أحدثه الفساق في المدينة.. فلقد سئل عن هذا اللون تحديدا، فقال "إنما يفعله عندنا الفساق".


إن السماع الطيب ليؤثر حتى على الحيوانات؛ فما بالك بالإنسان!

- كما ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه " أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ في سَفَرٍ، وكانَ غُلَامٌ يَحْدُو (يُنــشد) بهِنَّ يُقَالُ له أنْجَشَةُ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «رُوَيْدَكَ يا أنْجَشَةُ سَوْقَكَ (رفقًا) بالقَوَارِيرِ»

أنجَشةُ هذا غُلامٌ أسود، كان يسوقُ الإبل ويقودهُا بنساء النبيِّ _صلى الله عليه وسلم _ عام حِجَّةِ الوَداعِ، وكان حَسَنَ الصوتِ، وكان إذا حَدَا (أي أنْشَد)، أسْرَعتِ الإبل.فقال لهُ النّبي:” يا أنْجَشة رُويدَكَ سَوقَكَ بالقَوارير”. يَخافُ صلى الله عليه وآله وسلم أن يُزعِج انبعاثَ النَّاقة للمَشي النِّساء اللّواتي على ظهورها.

- وقد اجرى حديثًا الدكتور ادريان نورث والباحث ماك كينزي من جامعة ليستر الانجليزية اختبارات استمرت على مدى تسعة اسابيع على الف بقرة من نوع هولستاين فريزبانس، وتبين لهما ان استماع الابقار الى موسيقى رومانسية هادئة تجعلها تعيش في حالة مزاجية مختلفة تحثها على اعطاء مزيد من الحليب. لجأ الباحثان الى تركيب نظام موسيقي منزلي في عدد من زرائب الابقار وحيث ظلت تلك الموسيقى تعزف لمدة 12 ساعة يوميا، وقد استمعت الابقار الى موسيقى سريعة واخرى بطيئة. وقد تبين بعد رصد اجمالي النتائج ومعدلات الانتاج ان معدل انتاج الحليب ارتفع بمقدار 037 لترا للبقرة الواحدة يوميا عند استماعها للموسيقى البطيئة الهادئة.

وكان الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر الشريف عالمًا جليلًا، وقد قال عن السماع: "من لم يتأثر برقيق الأشعار ، تتلي بلسان الأوتار ، علي شطوط الأنهار ، في ظلال الأشجار ؛ فذلك جلف الطبع حمار!"


الخلاصة أن الغناء كلام؛ حسنه حسن وقبيحه قبيح، وعلى القبح والحسن تكون الإباحة أو الحظر.

وأن المعازف والموسيقى منها القبيح المزعج ، ومنها الرقيق المُبهج، وعلى القبح والرقة تكون الإباحة والمنع.

وأن الاقتران مصوغ للتحريم والحظر؛ حتى لو كان مصحفًا يُشترى بقصد الغواية والتلبيس على الناس.. ولهذا يقول ابن حزم: "كل شيء يقتنى ليضل به عن سبيل الله فهو إثم وحرام ولو كان شراء مصحف أو تحفيظ قرآن" .

فاقتران المعازف والغناء وبعض الطيبات المُباحات بالسوء ومجالس المنكرات مما يُفضي بالحرمة لا الذاتيّة وإنما الحرمة العارضة لأمر طارئ.

__________________________________

المصادر:

1. الفتاوى، للإمام الأكبر محمود شلتوت.

2. الغناء والموسيقى حلال أم حرام، الدكتور محمد عمارة.

3. الغناء في الإسلام، للعلامة الشريف عبد الحي بن فخر الدين الحسني.

4. البيان


2 تعليقات

تعليق:

أحدث أقدم

نموذج الاتصال