بسم
الله الرحمن الرحيم
قال الإمام العلامة الحافظ زين
الدين ابن الشيخ أبو العباس أحمد بن رجب– فسح الله في مدته ونفع به – :
الحمدُ لله
رسالة في ذمِّ قسوة القلب ، وذكرِ أسبابها ، وما
تَزول به .
أما ذمُّ القسوة :
قال تعالى : {ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}
، ثم بيَّن وجه كونها أشدّ قسوة بقوله تعالى : {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ
لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ
مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ} البقرة
: 74 .
وقال تعالى : {أَلَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ
الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ
عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} الحديد : 16 ، وقال تعالى : {فَوَيْلٌ
لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}
الزمر : 22 ، فوصف أهل الكتاب بالقسوة ، ونهانا عن التشبّه بهم.
قـال بعض السلف: لا يكون أشدّ قسوة
من صاحب الكتاب إذا قسا .
وفي الترمذي من حديث ابن عُمر قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تُكثروا الكلام بغير ذكر الله ،
فإنَّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوةٌ للقلب ، وإنَّ أبعد الناس من الله القلب
القاسي )) .
وفي مسند البزَّار عن أنس ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أربعة من الشقاء: جمود العين ، وقساوة القلب
، وطول الأمل ، والحرص على الدنيا ))، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات من طريق
أبي داوود النخعي الكذَّاب ، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة ، عن أنس .
وقـال مـالك بـن دينار : مـا ضُرب
عبد بعـقوبة أعـظم من قسوة القلب . ذكره عبدالله بن أحمد في الزهد .
وقـال حُـذيفة المـرعشي : ما أُصيب
أحدٌ بمصيبة أعظم من قساوة قلبه . رواه أبو نعيم .
وأما أسباب القسوة .. فكثيرة:
منها : كثرة الكلام بغير ذكر الله ، كما في
حديث ابن عمر السابق .
ومنها :نقضُ العهد مع الله تعالى ، قال
تعالى : {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ
قَاسِيَةً} المائدة : 13 .
قال ابن عقيل يوماً في وعظه : يا من
يجد من قلبه قسوة ! احذر أنْ تكون نقضت عهداً ! فإن الله يقول : {فَبِمَا
نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ ..} الآية .
ومنها : كثرةُ الضَّحك ، ففي الترمذي عن
الحسن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تُكثروا الضحك
، فإن كثرة الضحك تُميت القلب )) ، وقال : روُي عن الحسن قوله .
وخرَّج ابن ماجة من طريق أبي رجاء
الجَزَري ، عن برد بن سِنان ، عن مكحول ، عن واثلة بن الأسقع ، عن أبي هريرة قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كثرة الضحك تُميت القلب ))، ومن
طريق إبراهيم بن عبدالله بن حُنين ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ومنها :كثرةُ الأكل ، ولا سيما إنْ كان من
الشُّبهات أو الحرام.
قال بشر بن الحارث : خَصلتان تُقسِّيان القلب :
كثرة الكلام ، وكثرة الأكل . ذكره أبو نعيم.
وذكر المرُّوذي في كتاب الورع قال :
قلتُ لأبي عبدالله – يعني أحمد بن حنبل – : يجدُ الرجل من قلبه رقّة وهو شبع ؟ قال
: ما أرى .
ومنها :كثرة الذنوب ، قال تعالى : {كَلَّا
بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المطففين : 14 .
وفي المُسند ، والترمذي عن أبي
هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إنَّ المؤمن إذا أذنب كانت نكتةٌ
سوداء في قلبه ، فإنْ تاب ونزع واستغفر صُقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه ،
فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه : {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم
مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} )) . قال الترمذي : صحيح .
قال بعض السلف : البدن إذا عري رقَّ
، وكذلك القلب إذا قلّت خطاياه أسرعت دمعته .
وفي هذا المعنى يقول ابن المبارك – رحمه
الله – :
رأيتُ الذنوب تُميت القلوب *** ويُـورثـك الــذُلَّ
إدمانـهـا
وترك الذنوب حياة القلوب *** وخيرٌ لـنفـسـك عـصيانهـا
وأمَّا مزيلاتُ القسوة فمتعددة
أيضاً :
فمنها :كثرةُ ذكر الله الذي يتواطأ عليه
القلب واللسان ، قال المعلَّى بن زياد : إنَّ رجلاً قال للحسن : يا أبا سعيد ،
أشكو إليك قسوة قلبي ؟ قال : أدنه من الذكر .
وقال وهب بن الورد : نظرنا في هذا
الحديث ، فلم نجد شيئاً أرق لهذه القلوب ، ولا أشد استجلاباً للحق؛ مِن قراءة
القرآن لمن تدبَّره .
وقـال يحيى بن مُعاذ ، وإبراهيم
الخوَّاص : دواءُ القلب خمسة أشياء : قراءة القرآن بالتفكر ، وخلاء البطن ، وقيام
الليل ، والتضرّع عند السحر ، ومجالسة الصالحين .
والأصل في إزالة قسوة القلب بالذكر؛
قوله تعالى : {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ
أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد : 28 ، وقوله تعالى : {اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الزمر : 23 ، وقال تعالى : {أَلَمْ
يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا
نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} الحديد : 16 .
وفي حديث عبدالعزيز بن أبي روَّاد
مُرسلاً ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنَّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ
الحديد )) قيل : فما جلاؤها يا رسول الله ؟ قال : (( تلاوةُ كتاب الله ،
وكثرة ذكره )) .
ومنها :الإحسان إلى اليتامى والمساكين ،
روى ابن أبي الدنيا : حدثنا علي بن الجعد ، حدثني حمَّاد بن سلمة ، عن أبي عمران
الجوني ، عن أبي هريرة : أنَّ رجلاً شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوةَ
قلبه ؟ فـقـال : (( إنْ أحببت أنْ يليـن قلبك؛ فـامسح رأس اليتيم ، وأطعم
المساكين )) إسناده جيد، وكـذا رواه ابن مهدي عن حماد بن سلمة ، ورواه جعفر بن
مسافر : حدثنا مُؤمَّل ، حدثنا حمَّاد ، عن أبي عمران ، عن عبدالله بن الصامت ، عن
أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا كأنَّه غيرُ محفوظ عن حمَّاد، ورواه
الجوزجاني : حدثنا محمد بن عبدالله الرّقاشي ، حدثنا جعفر ، حدثنا أبو عمران
الجوني مُرسلاً ، وهو أشبه ، وجعفر أحفظ لحديث أبي عمران من حمَّاد بن سلمة .
وروى أبو نُعيم ، من طريق عبدالرزاق
، عن معمر ، عن صاحب له : أنَّ أبا الدرداء كتب إلى سلمان : ارحم اليتيم وأدنه منك
، وأطعمه من طعامك . فأنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجلٌ يشتكي
قسـاوةَ قلبـه ؟ فقال : (( أتحـب أنْ يليـن قلبـُك ؟ )) فقـال لـه : نعم .
فقال : (( ادن اليتيم منك وامسح رأسه ، وأطعمه من طعامك ، فإنَّ ذلك يُلين قلبك
، وتقدر على حاجتك )) .
قال أبو نُعيم : ورواه ابن جابر ،
والمُطعم بن المقدام ، عن محمد بن واسع : أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان مثله .
ونقل أبو طالب : أنَّ رجلاً سأل أبا
عبدالله – يعني أحمد بن حنبل – فقال له : كيف يرقُّ قلبي ؟ قال : ادخل المقبرة ،
وامسح رأس اليتيم .
ومنها :كثرة ذكر الموت ، ذكر ابن أبي
الدنيا بإسناده ، عن منصور بن عبدالرحمن ، عن صفية : أنَّ امرأة أتت عائشة تشكو
إليها القسوة ؟ فقالت : أكثري ذكر الموت؛ يرقّ قلبك ، وتقدرين على حاجتكِ . قالت :
ففعلت ، فأنِستْ من قلبها رشداً فجاءت تشكر لعائشة رضي الله عنها .
وكان غير واحد من السلف منهم: سعيد
بن جُبير وربيع بن أبي راشد ، يقولون: لو فارق ذكرُ الموت قلوبنا ساعة لفسدت
قلوبنا .
وفي السُّنن : عن النبي صلى الله
عليه وسلم : (( أكثروا ذكر هاذم اللّذات )) – الموت – .
ورُوي مُـرسلاً عن عطاء الخراساني
قال : مّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجـلس قد استعلاه الضحك ! فقال : (( شُوبوا
مجلسكم بذكر مكدِّر اللّذات )) قـالـوا : وما يُكدر اللّذات يا رسول الله ؟
قال : (( الموت )) .
ومنها :زيارة القبور والتفكر في حال أهلها
ومصيرهم ! وقد سبق قول أحمد للذي سأله ما يُرقُّ قلبي ؟ قال : ادخل المقبرة ! .
وقد ثبت في صحيح مسلم : عن أبي
هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( زُوروا القبور فإنها تُذكِّر
الموت )) .
وعن بُريدة ، أنَّ النبي صلى الله
عليه وسلم قال : (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، فإنَّها تذكر الآخرة
)) رواه أحمد ، والترمذي وصححه .
وعن أنس ، أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : (( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ، ثم بدا لي أنَّه تُرقُّ القلب ،
وتُدمع العين ، وتُذكر الآخرة ، فزوروها ولا تقولوا هُجرا )) رواه الإمام أحمد
، وابن أبي الدنيا .
وذكر ابنُ أبي الدنيا : عن محمد بن
صالح التمار قال : كان صفوان بن سليم يأتي البقيع في الأيام فيمر بي ، فاتبعته ذات
يوم؛ وقلت : والله لا انظرنَّ ما يصنع ! قال : فقنَّع رأسه وجلس إلى قبر منها ،
فلم يزل يبكي حتى رحمته . قال : ظننتُ أنه قبر بعض أهله ! قال : فمرَّ بي مرة أخرى
، فاتبعته فقعد إلى جنب قبرٍ غيره ، ففعل مثل ذلك . فذكرتُ ذلك لمحمد بن المنكدر
وقلت : إنّما ظننتُ أنه قبر بعض أهل . فقال محمد : كلهم أهل وإخوانه ! إنَّما هو
رجل يُحَّرك قلبه بذكر الأموات كلَّما عرضت لهو قسوة . قال : ثم جعل محمد بن
المنكدر بعد يمّر بي فيأتي البقيع ، فسلَّمتُ عليه ذات يوم ، فقال : ما نفعتك
موعظة صفوان ؟ قال : فظننت أنه انتفع بما ألقيتُ إليه منها .
وذكر أيضاً : أنَّ عجوزاً متَعبِّدة
من عبدالقيس كانت تُكثر إتيان القبور ، فعُوتبت في ذلك . فقالت : إنَّ القلب
القاسي إذا جفا لم يليِّنه إلا رسول البِلى ، وأنّي لآتي القبور وكأني انظر إليه
وقد خرجوا من بين أطباقها ، وكأني انظر إلى تلك الوجوه المتعفِّره ، وإلى تلك
الأجسام المتغيِّرة ، وإلى تلك الأكفان الدنسة !!، فيا له من منظر لم أَسُرّ به ..
قلوبهم ، ما أنكل مرارة الأنفس ، وأشد تلفة الأبدان.
وقال زياد النميري : ما اشتقت إلى
البكاء إلا مررت عليه . قال له رجل : وكيف ذلك ؟ قال : إذا أردتُ ذلك خرجت إلى
المقابر فجلست إلى بعض تلك القبور ، ثم فكَّرتُ فيما صاروا إليه من البِلى ، وذكرت
ما نحن فيه من المُهلة . قال : فعند ذلك تختفي أطواري ! .
وقلتُ والله الموفِّق :
أفي دار الخـراب تظل تبني *** وتـعـمر مـا لعمران خُلقتا
ومـا تركت لـك الأيام عذراً *** لقـد وعظتك لـكن ما تعظتا
تُنـادي للـرحيـل بكل حين *** وتُعلن إنّـمَا المقصـودُ
أنتا
وتُسمعـك النـداءَ وأنت لاهٍ *** عن الداعي كـأنَّك ما سمعتا
وتعلم أنَّه سـفـرٌ بـعـيـد *** وعـن إعـداد زادٍ قد غفلتا
تنـام وطالـب الأيـام ساعٍ *** وراءك لا يـنام فكيـف نمتا
معائب هـذه الـدنيـا كثير *** وأنـت علـى محبّتـها طُبعتا
يضيع العمرُ في لعـبٍ ولهو *** ولو أٌعطيت عقلاً ما لعـبتـا
فما بعد الممات سـوى جحيم *** لعـاص أو نـعيم إنْ أطعتـا
ولست بآملِ باطلٍ
رداً لدنيا *** فتعـملُ صـالحاً فيما تركتـا
وأوَّلُ من ألوم اليوم نفسـي *** فقد فعلتْ نظائـرَ مـا
فعلتـا
أيا نفسي أخوضاً في المعاصي *** وبعد الأربعين وفيت ستـا
وأرجـو أنْ يطول العمرُ حتى *** أرى زاد الـرحيـل وقد
تأتّى
أيا غُصن الشباب تميل زهواً *** كأنك قد مضى زمـن وشبتا
علمتَ فدع سبيلَ الجهل واحذر *** وصحح قد علمتَ وما عملتا
ويا من يجمع الأموال قـل لي *** أيمنعك الرّدى ما قد جمعتـا
ويا من يبتغي أمـراً مطاعاً *** ليسمع نافـذاً مَن قـد أمـرتا
عججت إلـى الولاية لا تُبالي *** أجرت علـى البرية أم
عدلتا
ألا تـدري بـأنك يوم صارت *** إليك بغـير سكـين ذُبـحتـا
وليس يقوم فرحةُ "قد تولَّـى" *** بترحة يوم
تسمع "قد عُزلتـا"
ولا تُهمل فإن الوقت يسري *** فإنْ لم تغتنمه فقـد أضعتـا
ترى الأيام تُبلي كـل غُصن *** وتطوي مِن سرورك ما نشرتا
وتعلـم إنِّمـا الدنيـا منـام *** فأحلـى ما تكون إذا
انتبهتا
فكيف تصدّ عن تحصيل باق *** وبـالفاني وزخرفـه شُغلـتا
هـي الـدنيا إذا سرتك يوماً *** تسوؤك ضعف ما فيها سُررت
تغرّك كـالسراب فأنت تسري *** إليه وليـس تشعر إن غُررتا
وأشهد كـمْ أبادت من حبيب *** كـأنك آمن ممـا شهـدتـا
وتـدفنهم وتـرجع ذا سُرور *** بما قـد نلت من إرث وحرثا
وتنساهـم وأنت غداً ستفنى *** كـأنك مـا خُلقت ولا وجدتا
تُحِّـدث عنهم وتقـول: كانوا *** نعم كـانوا كمـا والله
كنتـا
حديثك هـم وأنت غداً حديثٌ *** لغيرهم فـأحسن ما استطعتا
يعود المرء بعد الموت ذكراً *** فكن حسن الحديث إذا ذُكرتا
سـل الأيام عـن عم وخال *** وما لك والسؤال وقد علمتا
ألست تـرى ديـارهم خلاءً *** فقد أنـكرت منها ما عرفتا
ومنها :النظرُ في ديار الهالكين ،
والاعتبار بمنازل الغابرين .
روى ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر
والاعتبار بإسناده : عن عمر بن سُليم الباهلي ، عن أبي الوليد أنه قال : كان ابن
عمر إذا أراد أنْ يتعاهد قلبه؛ يأتي الخَربة فيقف على بابها ، فيُنادي بصوت حزين
فيقول : أين أهلك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : كلُّ شيء هالكٌ إلا وجهه !! .
وروى في كتاب القبور بإسناده : عن
محمد بن قدامة قال : كان الرَّبيع بن خُثَيم إذا وجد مِن قلبه قسوةً يأتي منزل
صديق له قد مات؛ في الليل فيُنادي : يا فلان بن فلان ، يا فلان بن فلان . ثم يقول
: ليت شِعري !! ما فعلتَ وما فُعل بك ؟ ثم يبكي حتى تسيل دموعه ، فُيعرف ذلك فيه
إلى مثلها .
ومنها :أكلُ الحلال ، روى أبو نُعيم وغيره
، من طريق عمر بن صالح الطرسوسي قال : ذهبتُ أنا ويحيى الجلاء – وكان يُقال إنّه
من الأبدال – إلى أبي عبدالله أحمد بن حنبل فسألته – وكان إلى جنبه بوران وزُهير
وهارون الجمال – فقلت : رحمك الله يا أبا عبدالله بما تلين القلوب ؟ فنظر إلى
أصحابه فغمزهم بعينه ، ثم أطرق ثم رفع رأسه فقال : يا بني بأكل الحلال . فمررتُ
كما أنا إلى أبي نصر بشر بن الحارث فقلت له : يا أبا نصر بما تلين القلوب ؟ فقال :
ألا بذكر الله تطمئن القلوب . فقلتُ : فـإني جئتُ من عند أبي عبدالله . قال : هيه
! أي شيءٍ قال لك أبو عبدالله ؟ قلت : قال : بأكل الحلال . فقال جاء بالأصل ، جاء
بالأصل ! فمررتُ إلى عبدالوهاب الوراق فقلتُ : يا أبا الحسن بما تلين القلوب ؟
فقال : ألا بذكر الله تطمئن القلوب . قلت : فإن جئتُ من أبي عبدالله . فاحمرَّت
وجنتاه من الفرح ! فقال لي : أي شيءٍ قال أبو عبدالله . قلت : قال : بأكل الحلال .
فقال : جاءك بالجوهر ، جاءك بالجوهر ، الأصل كما قال ، الأصل كما قال !! .
والحمد لله وحده .
الحافظ ابن رجب الحنبلي*