الغلو في الدين pdf

 



هذا الكتاب يتناول وجوها في الغلو ، منها ما يحسب على الدين ، على أنه تضحيات وبذل ، أو طاعات وقرب ، وما هو إلا إساءة إلى الدين وأهله ، ونبذ لتعاليمه وشرعه ، وهذا مركب غلو التطرف والإفراط ، ومنها ما هو ، تشويه وتحريف ، وتلبيس وتدليس ، وهذا مسلك غلو التفريط والتضليل .

ومنهجي في تقرير الأحكام الواردة في هذا الكتاب اتباع الصحيح من أقوال العلماء ، وما عليه جماهيرهم ، المسندة إلى كتاب الله تعالى والسنة الصحيحة ، والدليل الذي ارتضاه العلماء ، مقتصرا على ما وضح استنباطه ، وتبادر لدى العلماء من الدليل فهمه ، دون التواء ، أو تمثل في فهم النص ، أو اتباع شواذ الأقوال ، وغرائب الأحكام ، ولو كان ذلك هو ما أطبق عليه ، العائة وألفوه .

فالحق إنما هو فيما أطبق عليه العلماء وأقروه ، وإن خالف ما أطبق عليه العامة وأحدثوه ، وما اعتادوه في أمور الدين واستحسنوه ، فللعامة في ذلك جهالات ، وبدع وضلالات ، فلا يغتر بإطباقهم والفهم إياها ، فإن الاقتداء والعمل ما يكون بأئمة الدين ، وأقوال العلماء ، المتفقة مع الصحيح من الدليل .

لذا كان لابد للباحث ، الطالب للحق في هذا العلم الشريف ، الناقل للناس الفقه والفتوى في أمر الدين ، لابد له من أمرين ذكرهما غير واحد من العلماء
.
الأول : الإخلاص لله ولرسوله ولكتابه ودينه ، وعامة المسلمين .

الإخلاص لله ورسوله : بالإخلاص لكتاب الله وسنة نبيه ، بحمل نصوصهما على الدلالة الواضحة الصحيحة ، دون تمحل وتكلف ، وتحميل اللفظ ما لا يتحمله إلا بتعنت وتعسف؛ فإن ذلك من تحريف الكلم عن مواضعه ، الذي حذر منه الباري لك .

والإخلاص لدين الله : بتنزيهه عن الأقوال الباطلة ، المناقضة لما بعث الله به رسول الله من الهدى والبينات .

والإخلاص لعامة المسلمين : بأن يفتون بما فيه النصح لهم ، وأخذ الحيطة لهم فيما يدينون الله تعالى عليه ، وبما فيه نجاتهم ، وإرشادهم إلى الحق البين ، الذي لا تكتنفه الشبهات ، وذلك بترك ما يريبهم إلى ما لا يريبهم ، دون التبرير لما هم عليه من المخالفات ، ومواضع الشبهات ، بضعيف الأقوال وزلات العلماء .

فقد حذر الأئمة من تتبع الرخص وشواذ المسائل ، وزلات العلماء ، وجعلوا تنبيها أمارة الزندقة ، والمروق عن الإسلام ، وعلامة الفسوق والشر والضلال وقالوا : إن زلة العالم تهدم الإسلام .

روى البيهقي بسنده إلى القاضي إسماعيل بن إسحاق الحافظ ، إمام المالكية في العراق ، قال: « دخلت على المعتضد ، فدفع إلى كتابا ، فنظرت فيه ، وكان قد جمع له الرخص من زلل العلماء ، وما احتج به كل منهم لنفسه ، فقلت له : يا أمير المؤمنين ، مصنف هذا الكتاب زنديق ، فقال المعتضد : لم تصح هذهالأحاديث ؟! ، قلت : الأحاديث على ما ژویت .

ولكن من أباح المسكر - النبيذ - لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر ، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ؛ ذهب دينه ، فأمر المعتضد ، فأحرق ذلك الكتاب

وروى عبد الرزاق عن معمر قال : « لو أن رجلا أخ يقول أهل المدينة في استماع الغناء ، وإتيان النساء في أدبارهن ، ويقول أهل مكة في الثقة والشرف ، ويقول أهل الكوفة في المشير ، كان شر عباد الله .

وقال الأوزاعي : من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام . وقال سليمان التيمي : لو أخذت برخصة كل عالم ، اجتمع فيك الشر كله .

قال ابن عبد البر : هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا .

الثاني : معرفة أن الفضل للسابق ، فيعرف الأئمة الإسلام فضلهم وقدرهم ومنازلهم وأن فضلهم وعلمهم ، لا يستلزم قبول كل أقوالهم ، ولا قبول ما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول ع ، فقالوا بمبلغ علمهم ، والحق في خلافها ، ووقوع ذلك منهم لا يلامون عليه ، ولا يوجب ترك جميع أقوالهم ، ولا يكون مدعاة إلى تنقصهم ، بل نأخذ من أقوالهم ونترك ، فلا نؤثم ولا تعصم ، ونأخذ بما أخذوا به هم أنفسهم في اتباع من قبلهم .

ولنعلم أن العالم الجليل ، الذي له في الإسلام قدم ، وفي العلم مكانة وفضل ، قد تكون منه الهفوة والرئة ، هو فيها معذور ، بل مأجور ، لاجتهاده وبذل وسعه في الحق ، لكن لا يجوز اتباعه في زلاته وهفواته ، ولا إفتاء الناس بما شذ فيه وخالف ، وفي الوقت نفسه لا تهدر مكانته وإمامته في الدين ، ولا يحط من منزلته في قلوب المسلمين .

هذا ، وما أردت بما عزمت عليه - والمشيئة لله وحده - إلا الصح والتبصير لما رأيت من ازدیاد تشعب السبل ، وارتياد بنيات الطريق ، وذلك حتى لا يبقى بعد البيان عذر يتمسك به ذو شبهة أو متكلف ، ابتغيت به وجه ربي ذي الجلال والإكرام.


إرسال تعليق

تعليق:

أحدث أقدم

نموذج الاتصال