التحريف في الإسلام (تحريف الكلم عن مواضعه!) pdf

 



يتمثل المأزق المشترك بالنسبة إلى الشرائع السماوية في أنه ما أن يتوفی الله تعالى رسله ، حتی بنکص أتباعهم على أعقابهم، ويخلدوا إلى الأرض، ويسعوا إلى إخضاع الإلهي والديني والمقدس والمطلق، إلى ما هو إنساني ونسبي ونفعي، وعادة ما يتولى هذا الأمر الحذاق والشطار الذين يحتكرون المال والجاه، حيث تضيرهم بعض القواعد الدينية التي تحد من شهوتهم للطغيان والظلم، واحتكار الجاه والمال، فتحرم الاحتكار والرشوة والربا، وتأبی أن یکون المال دولة بين الأغنياء من دون الفقراء، وتحرم اكتنازه.

كما تضيرهم القيم الدينية التي تحث على الإنفاق في سبيل الله، وتدعو للحد من الترف والإسراف. ومن هناك يسعى هؤلاء إلى تغليب الإنساني والنسبي والنفعي، على الإلهي والمطلق والمقدس والديني في حياة الناس. وعادة ما يسلس العامة لهم القياد فيتبعونهم ويرضون بما تواضعوا عليه من تحریف وإخضاع الشرائع الله النظريات ومعتقدات البشر.

ويجد المحترفون ضالتهم في الجزء الإنساني من الدين، الذي يلتقطونه من دور الرسل عوة وأحاديثهم وتبيانهم لدلالات النص الإلهي، فيتلاعبون به ويتأولونه بغرض توظيفه لخدمة مآربهم الخاصة. فابتدع اليهود كتابا مقدا غير التوراة سموه التلمود، جمعوا فيه ما نسبوه إلى النبي موسى علة من أقوال وأحادیث، ادعى الأحبار بأن الله سبحانه وتعالى قد أوحاه إليه في جبل طور، كما ادعوا بأن الوحي الإلهي على النبي موسى عه لم يقتصر على التوراة بل يشمل التلمود أيضا. وفعل المسيحيون الأمر نفسه حين جمعوا أقوال المسيح في أناجيل عديدة بلغت أكثر من ثلاثين إنجيلا منها أربعة معترف بها، وأخفوا الإنجيل الإلهي الذي لا يتماشى مع العقيدة المسيحية الجديدة، التي نتجت عن إخضاع رسالة المسيح للقيصر، والتي تتبنى عقيدة التثليث وتدعي بأن المسيح ابن الله سبحانه وتعالى عما يصفون، والتي كرست عقيدة أحادية للمسيحيين في مجمع نيقيا » الذي دعا إليه القيصر قسطنطين الملقب بالعظيم، وبذلك بلغ التحريف مداه لدى المسيحيين، حيث حل النص الإنساني محل النص الإلهي بالكامل، بينما اوج اليهود بين النصين الإلهي والإنساني، فزاوجوا بين التوراة والتلمود.

وإجمالا فإن التجار والمرابين وأهل المال والجاه اليهود تضايقوا من نصوص التوراة، فاستعاضوا عنها بالتلمود. ونتضابق القيصر ومترفو الرومان من نصوص الإنجيل، فاستعاضوا عنها بما قيل إنها أقوال المسيح . غير أنها في الواقع كانت أقوال الرواة الذين تسموا بالقديسين، وجمعوا بعض أقوال المسيح لا ، التي لا تتعارض مع مقررات مجمع نيقيا الكنسي» أو التي أخضعت لها، كما أضافوا إليها ما شاؤوا من الأقوال التي لم يقلها.

وساد اعتقاد لدى المسلمين، بأن رسالة الإسلام لم تتعرض للتحريف، ولن تتعرض له، ذلك أن الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظها .

هذه الدراسة تحاول أن تسبر غور هذا الاعتقاد، وتبرهن على مدى صحته، وذلك بالتحري من مدى سلامة رسالة الإسلام من التحريف، منذ تنزيل القرآن على النبي محمد ة وإلى اليوم. ومن أجل هذه الغاية تم الرجوع إلى كتب التفسير وخاصة التفسير بالمأثور، وكتب أسباب النزول والنسخ في القرآن الكريم، ومدونات الأحاديث؛ وذلك لتحقيق هذه المسألة، والتأكد من سلامة الرأي القائل بأن رسالة الإسلام كانت بمنأى عن التحريف والتزوير ، وبمنأى عن تغليب الإنساني والنسبي والنفعي على الإلهي والمطلق والمقدس، وهو ما لحق بالشرائع السماوية السابقة لها كاليهودية والنصرانية.

والدراسة تنطلق من أطروحة نقول: بأن رسالة الإسلام لم تسلم من التحريف، ولم تسلم من تغليب الإنساني والنسبي والنفعي على الإلهي، فحتى وإن سلم النص القرآني نفسه من التحريف، فإنه قد طاله الإلغاء والتعطيل بواسطة النسخ وطاله التحريف بواسطة التأويل وبما غصت به كتب التفسير من روايات كاذبة تتعلق بأسباب النزول، كما طال الإسلام ما طال الديانات السابقة من تغليب لما هو إنساني على ما هو إلهي في الدين، فغلبوا ما ورد في كتب الصحاح السنة على القرآن، فقالوا:
بأن الحديث حجة على القرآن، والقرآن ليس حجة على الحديث؛ حيث أورد ابن عبد البر في كتابه جامع بیان العلم وفضله قولا نسبه للأوزاعي قال فيه:
«قال الأوزاعي الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب، قال أبو عمر يريد أنها تقضي عليه ونبين المراد منه، وروي حدثنا عیسی بن يونس عن الأوزاعي عن مكحول قال : القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب. وبه عن الأوزاعي قال يحيى بن أبي كثير : السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب قاضيا على السنة .

كما قالوا بأن الأحاديث وحي من الله كالتلمود وأول من قال بذلك الشافعية، ووافقه فقهاء ومحدثو أهل الحديث والنسخ في ذلك.

والدراسة ستأخذ على عاتقها التحقق من هذه الأطروحة المخالفة للتيار الرئيسي والسائد في الدراسات الإسلامية، هذه الدراسات التي دأبت على التأكيد على خلو الإسلام من أي تحريف.

وهذا لا يعني بأن هذه الدراسة تدعي الريادة في معالجة هذه الأطروحة، بل ثمة دراسات عديدة أخذت على عانقها محاولة الخروج عن التيار السائد والمحافظ بشقيه السني والشيعي، والذي يستميت في المحافظة على سلامة التراث الديني وصحته، الذي وصلنا من التمارين الرئيسين في الإسلام: الإسلام السني، وهو ما أسميه في هذه الدراسة «أهل الحديث والنسخ، والإسلام الشيعي أي الشيعة الإمامية، وهو ما أسميه أهل الرواية والتأويل»، وقد قام بتلك الدراسات العديد من الباحثين والدارسين الجادين الذين لا يتسع المجال لذكرهم جميعا هنا، لكننا نتوجه لهم بالتحية والتقدير على جهودهم الجادة والجريئة، ونطلب من الله العلي القدير أن نتمكن من أن نضيف لبنة لما بذلوه من جهود.


إرسال تعليق

تعليق:

أحدث أقدم

نموذج الاتصال