الفارابي.. فيلسوف الإسلام المُبدع




أخرجت مدرسة الإسلام باعتمادها على العقل السليم علماء وفلاسفة علموا الدنيا كلها معنى الإبداع، هذه المدرسة التي لطالما أتحفت البشر بإسهاماتها المتجددة في شتى المجالات، وذلك بالتفكير السليم الذي أشار إليه النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: «إِنَّمَا يَرْتَفِعُ النَّاسُ فِي الدَّرَجَاتِ وَيَنَالُونَ الزُّلْفَى مِنْ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ»، ولسان حالها يقول:

وبالهمةِ العلياءِ يرقَى إِلى العُلا ** فمن كان أرقَى هِمَّةً كان أظهرا

ولم يتأخرْ مَن يريدُ تقدمًا ** ولم يتقدمْ مَن يريدُ تأخرا

وهاك نموذج من نماذج الإسلام الفريدة التي ثارت هممهم في العلم، حتى ظهرت علومهم رافعة الراية للتقدم والرُقي.. تنادي: يا باغي الحضارة؛ أقبل!

نبذة حول الفارابي


هو محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ، أبو نصر الفارابي، الحكيم المشهور، ولـد في مدينة «فاراب» في تركستان، اختلف في أصله فقيل تركي وقيل فارسي، ويعرف بـ(المعلم الثاني) لدراسته كتب أرسطـو (المعلم الأول) وشرحـه لها.

درس في مسقــط رأسه مجموعـة من المــواد المختلفـة كالعـلـوم، والرياضيـات، والآداب، والفلسفة، واللغـات خاصة التركية، والفارسية، واليونانية، والعربية. وفي سن متقدمة، غادر مسقط رأسه وذهب إلى العراق لمتابعة دراساته العليـا، فدرس الفلسفة، والمنطق، والطب، كما درس العلـــوم اللسانيـة العربيـة والموسيقى. وألف الفارابي ما يزيد على مائة كتاب في شتى المجالات والتخصصات،

سافر من العراق إلى مصر، ومن مصر إلى الشام، حيث التحـق بقصر سيف الدولة في حلب واحتل مكانة بارزة بين العلماء، والأدباء، والفلاسفـة، وكان الفـارابي فيلسوفًا ورياضيًا فذًا ذائع الصيت، بالإضافة إلى كونه موسيقيا بارعًا وبعد حيـاة حافلة بالعطاء في شتى علـوم المعرفـة طوال 80 سنة. وقد كان أزهد الناس في الدنيا.

بدأ حياته بتولي القضاء، ثم تركه من أجل طلب العلم، وقد كان محبًا للعلم باحثًا عنه حتى مات.

الفارابي الفيلسوف المُــبدع


بلغت مهارته أنه صنع آلة غريبة يستمع منها ألحانًا بديعة يُــحرك بها الانفعالات.

دخل يومًا على سيف الدولة، وفي نهاية جلسته، قال له سيف الدولة: هل تشرب؟ فقال الفارابي: لا. فقال سيف الدولة هل تأكل؟ فقال الفارابي: لا. فقال سيف الدولة هل تسمع؟ فقال الفارابي نعم. فأمر سيف الدولة بإحضار كل ماهر في أنواع الملاهي، فخطأهم الفارابي جميعًا!

ثم أخرج من حقيبته خريطة (كالعود) وركبها فضحك الجميع، ثم غير تركيبها وأسمعهم فبكى الجميع، ثم غير تركيبها وأسمعهم فنام الجميع.. فأخذ نفسه وانصرف!

الله وصفاته

بنا الفيلسوف المسلم «الفارابي» الاعتقاد في وجود الله عز وجل على دليلين عظيمين مشهورين عند المتكلمين، أولهما: كان دليل الوجوب والإمكان، ويقوم هذا الدليل على أنه إذا لم يكن للعالم واجب (وهو الله) لانحصرت الموجودات كلها في الممكنات، والممكن هو ما استوي طرفاه إيجادًا وعدمًا؛ أي إنه لا يستطيع أن يوجد نفسه، ويلزم من هذا الانحصار عدمه، لأن الكون موجود بالمشاهدة، وما دام موجودًا فلا بد من «علة» أزلية أوجدته وأخرجته من دائرة الإمكان إلى دائرة الوجود؛ لأنه كما قلنا الممكن لا يوجد نفسه، وهذه العلة «الله» سبحانه.

والثاني هو دليل الإتقان، ومفاده أن هناك إتقانًا للكون وتنظيمًا له، وهذا الإتقان لا بد له من مُتقن، وهذا النظام لا بد له مُـــنظـم، وهو الله. فمستحيل أن يكون هذا صدفة، لأن الصدفة لا تستطيع أن تجعل قانونًا مُحكمًا، فما نسميه الصدفة هو تعبير عن جهلنا معرفة الأسباب. ومحال أن تكون العلة الفاعلة مادة إذ كيف توجِد المادة «غير العاقلة» قانونًا كهذا يسير عليه الكون دون اضطراب؟!

ووصل الفارابي في صفات الله عز وجل حد التنزيه المطلق حين قرر أن الله تعالى ليس بمادة، وما دام أنه كذلك فوجوده من ذاته، كما أنه ليس كمثله شيء مطلقًا.

ومن ناحية الإدراك العقلي للبشر لله عز وجل، يؤكد الفارابي أنه من العسير على البشر تصورنا للذات الإلهية، وذلك لضعف عقولنا ولفرط كماله؛ فالله يبهرنا فلا نقوى على تصوره على التمام.

نظرة الفارابي في الإصلاح

من أعظم ما أكد عليه الفارابي لكي يكون المجتمع فاضلًا ومثاليًا، أنه لازم للنبي اتباعا وإرشادًا، والنبي عن الفارابي هو الشخص الصالح لرئاسة المدينة الفاضلة، فمنزلة النبي عند الفارابي ليست فقط في سموه الشخصي؛ وإنما لما له أثر في المجتمع.

ناهيك عن المآخذ التي عددها العلماء على الفارابي في نظريته في النبوة ورفعه للعقل الفلسفي على العقل النبوي.. إلا أننا نلمح عظيمًا، وهو كونه قد ربط بين الإصلاح والنبي؛ فالنبي عنده من أهم سماته وصفاته الأساسية أنه مُصلح في المجتمع بفعله لا بقوله.

فقد اهتم الفارابي بالإصلاح في المجتمع حتى أنه ألف كتبًا عديدة في المدينة الفاضلة القائمة على الإصلاح والصلاح، وقد ذكرنا بعض هذه الكتب آنفًا، كما يدل على اهتمامه هذا صفات رئيس الدولة في هذه المدينة، وهي صفات أينما توافرت استحق أن يُطلق على المجتمع فعلًا أنه مجتمع مثالي فاضل.

المدينة الفاضلة

للفارابي آراء فلسفية كثيرة ، منها على سبيل المثال «أراؤه في المدينة الفاضلة» أو آراؤه السياسية.

وقد اهتم الفارابي جدًا بهذا الجانب، حيثُ ألف حول هذا الموضوع كثير من الكتب منها: كتاب السياسات المدنية، وتحصيل السعادة، والتنبيه على السعادة.

وأهم كتاب في هذا المجال كتابه «المدينة الفاضلة» حيثُ أن هذا الكتاب من أواخر ما ألف الفارابي، و قد أحاط بموضوع المدينة الفاضلة من جميع أطرافه، وفي هذا الكتاب ذكر الفارابي معتقدات أهل المدينة الفاضلة ونظام سلوكهم، وأسباب انهيار المدينة الفاضلة.

والمدينة الفاضلة في نظر الفارابي هي المدينة التي تتعاون فيها كل مدنها على ما تنال به السعادة، وهذه السعادة تبنى على الإيمان بوجود الله الحكيم، وأن العالم مخلوق، وأن الأنبياء رسل من عند الله أرسلهم لهداية عباده والأخذ بأيديهم للنور، وهنا تشابه بين ما ذهب إليه الأستاذ سيد قطب رحمه الله حين قرر أن السعادة والسلام لا يتم إلا بالسير على منهج الخالق العالم بخلقه، وبين نظرة الفارابي في تحصيل السعادة في المجتمع.

كما تبنى هذه السعادة أيضًا على شيء مهم وهو صفات قائد أو رئيس هذه المدينة، فالسعادة لا تتحقق إلا إذا توفرت في الرئيس مجموعة شروط فطرية ومكتسبة، أما الشروط الفطرية هي: أن يكون تام الأعضاء، جيد الفهم، ذكيًا، حسن العبارة، غير شره على المأكول والمشروب، محبا للصدق وأهله، كبير النفس محبا للكرامة، أعراض الدنيا عنده هينة، محبا للعدل، قوي العزيمة.

وإذا تحققت هذه الشروط الفطرية في شخص ما فلا يستحق أن يرأس المدينة الفاضلة إلا بعد أن تتوفر فيه مجموعة شروط مكتسبة وهي: أن يكون حكيمًا، عالما حافظا للشرائع والسنن، جيد الاستنباط، لديه القدرة على إيجاد حلول للمشاكل، أن يكون جيد الإرشاد، القدرة على القيادة في الحرب والمعارك.

ويرى الفارابي أنه إذا تولى منصب الرئاسة من توفرت فيه هذه الشروط فإنه يوجه الأمة لا محالة إلى الخير أو نحو السعادة.

قالوا عنه

-يقول «كارا دي فو» كما في كتاب تراث الإسلام: «أما الفارابي الأستاذ الثاني بعد أرسطو وأحد أساطين الأفلاطونيـة الحديثة ذو العقليـة التي وعت فلسفـة الأقدمين، فقد كتب رسالة جليلة في الموسيقى وهو الفن الذي برز فيه، نجد فيها أول جرثومة لفكرة النسب (اللوغارتم)، ومنها نعرف علاقة الرياضيات بالموسيقى».

-يقول عنه «أبو القاسم صاعد القرطبي» في كتاب طبقات الحكماء: «الفارابي فيلسوف المسلمين بالحقيقة».

– يقول عنه «ت.ج.دي بور»: «كان الفارابي يعيش في عالم العقل ابتغاءً للخلود، وكان ملكا في عالم العقل».

– قال عنه «شمس الدين الذهبي» في سير أعلام النبلاء: «الفارابي شيخ الفلسفة الحكيم أبو نصر، محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ، التركي «الفارابي» المنطقي، أحد الأذكياء.. أحكم العربية بالعراق، ولقي متى بن يونس صاحب المنطق، فأخذ عنه، وسار إلى «حران»، فلزم بها «يوحنا بن جيلان» النصراني. وسار إلى مصر، وسكن دمشق».

-ويقول «مصطفى عبد الرازق» عنه: 

«لئن كانت الأجيال تهتف باسم الفارابي منذ ألف عام في الشرق والغرب، فإنه قد استحق ذلك بما وهب حياته لخدمة العلم والحكمة، وبما ترك من أثر في تاريخ التفكير الفلسفي البشري، وفي تاريخ المثل العليا، للحياة الفاضلة».

-ويقول عنه «العقاد»: «إن فلسفة الفارابي فلسفة إسلامية لا غبار عليها، فليس رفيها حرج ولا ريبة ولا نخالها تغضب متدينا بالإسلام أو بغيره من الأديان».

من أقواله

– يقول في أدعيته وابتهالاته: «يا ذا الجلال والإفضال، هذب نفسي بأنوار الحكمة، وأوزعني شكر ما أوليتني من نعمة، أرني الحق حقًا وألهمني اتباعه، والباطل باطلاً واحرمني اعتقاده واستماعه، هذب نفسي من طينة الهيولى إنك أنت العلة الأولى

يا علة الأشياء جمـعـًا والـذي ** كان به عن فيضه المتفـجـر
رب السموات الطباق ومركـز ** في وسطهن من الثرى والأبحر
إني دعوتك مستجـيرًا مـذنـبـًا ** فاغفر خطيئة مذنب ومقـصـر
هذب بفيض منك رب الكل مـن ** كدر الطبيعة والعناصر عنصري

من شعره

لما رأيت الزمان نكـسـا ** وليس في الصحبة انتفـاع
كل رئيس بـه مـــلال ** وكـل رأس بـه صـداع
لزمت بـيتـي وصـنـت ** عرضًا به من العزة اقتناع!


وفاته

سافر الفارابي إلى مصر سنة 338هـ، ورجع إلى دمشق وتوفي بها في رجب 339هـ، وقد كان أعزبًا، وصلى عليه سيف الدولة عليّ بن حمدان في خلافة الراضي وصلى عليه في 15 رجلًا من خاصته.

فلماذا لا نستعيد سيرة أمثال هذا الفيلسوف المبدع كابن رشد وابن سينا والغزالي.. هذه القيمة التي أدرك مداها الغرب فجعل كتبهم محل دراسة أبنائه في المدارس والجامعات، يستفيدون من علماء المسلمين وأكثر المسلمون غافلون عن كنوز أجدادهم!



إرسال تعليق

تعليق:

أحدث أقدم

نموذج الاتصال