التصوف طريق المُحبين



(أحبك حبَّين: حب الهوى وحبًّا لأنك أهل لذاك). رابعة العدويَّة.


اختلفت الآراء والتعريفات حول «التصوف» وتحديد ماهيته وحقيقته، لكن البلبلة التي أثيرت حول التصوف لتنجلي إذا علمنا أن «التصوف» منهج وطريقة في السير إلى الله رب العالمين، والوصول لقربه ومحبته.

هذا الطريق ما كان يومًا ليكون مخالفًا لمبادئ الإسلام وشريعته، وإن وجد أُناس يدَّعون الانتساب للتصوف والسير على دربه مُخالفين بطريقتهم طريقة القرآن العظيم والنبي الكريم، في إرساء القواعد العامة والوجهة الأساسية للسير في طريق الحق والحقيقة؛ إن وجد هؤلاء فالإسلام والتصوف والمسلمون برءاء منهم ومن أفعالهم، لأن التصوف منهج منبثق من القرآن والسنة، وهذا ما أكده الجُنيد، رحمه الله، عندما أشار وعرف بطريقتهم فقال: «طريقنا هذا طريق القرآن والسنة، وكل من خالف القرآن والسنة فاضربوا به عرض الحائط».

إذًا؛ فلا ذنب للمنهج بسوء اتباع سالكيه، ولا ذنب للتصوف بانحراف مدعيه؛ كما لا ذنب للإسلام عمومًا بميل مسلميه للفواحش والآثام.

إن كان هذا الإنسان صوفيًّا بحق؛ فإنك تجده فيه الآتي:

1. أعلى درجات الأخلاق الحسنة، يقول الكتاني: «التصوف خُلق فمن زاد عليك في الخُلق فقد زاد عليك في الصفاء».

2. الاعتماد الكامل على الله واليأس من الخلائق، ولذلك قال معروف الكرخي: «التصوف هو الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق، فمن لم يتحقق بالفقر لم يتحقق بالتصوف»، والفقر هنا هو الافتقار إلى الحق، وخلو قلبه من التعلق بالدنيا الزائلة.

3. التفكُّر والتأمُّل الدائم في عظيم القدرة الإلهية، يقول الجنيد، رحمه الله: «التصوف هو أن تكون مع الله بلا علاقة»، ويقول رويم: «التصوف استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد»، ويقول سهل بن عبدالله: «الصوفي من صفا من الكدر وامتلأ من الفكر وانقطع إلى الله من البشر، واستوى عنده الذهب والمدر».

4. التمسك بالحق وعدم الرضا بالباطل، ولذلك كان أئمة التصوف لا يخافون في الله لومة لائم، فيصدعون بالحق أمام الظلمة والجائرون، لأنهم كما قال ذو النون المصري: «آثروا الله على كل شيء فآثرهم الله على كل شيء».

5. العلم والمعرفة، يقول القشيري عن الجنيد: «من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر»، ولهذا كان أفذاذ العلماء من الصوفية كالحسن البصري، والإمام الغزالي، وذو النون المصري، والحارث المحاسبي وغيرهم كُثر.

إذا علمت هذا؛ علمت أن قوام المنهج الصوفي مبني على القواعد العامة للإسلام، وأنه مستمد من الكتاب والسنة ومكارم الأخلاق، ولا شك أن الدعوة النبوية حثت على ذلك عندما جاءت بالإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

طريقة كهذه، ومنهج كهذا، ألا يحمل السعادة والود والاحترام للمجتمع والناس؟

فعندما يكون الخالق هو المصدر الوحيد للخشية في هذه الحياة، تتلاشى سبل الرهبة من دفع الظلم والفساد، ويحل العدل والوئام.

عندما يكون هناك مجتمع يعمل أفراده على تصفية القلوب وتهذيب النفوس والتحلي بمكارم الأخلاق. ألا يخلق هذا حياة صافية كريمة نابعة من الأدب المؤمن العالي؟

عندما يعلم المرء أن الله رقيب عليه في كل حال؛ علمًا يقينيًّا، فإنه حتمًا سيخشى عصيانه وهو العبد الذي يُحسن إليه سيده دومًا، وهذا ما جعل الشيخ عبد القادر الكيلاني يقول: «اسمع لي يا بني: إن المأكل الحرام يُميت القلبَ، فثمةَ لقمة تنير القلب وأخرى تجعله مظلمًا، كما أن هناك لقمة تجعلك متعلقًا مشغولًا بالدنيا، وأخرى تشغلك بالآخرة، وهناك لقمة تجعلك زاهدًا في الدارين ولقمة تجعلك مُقبلًا على خالق الدنيا والآخرة، فالمأكل الحرام يشغلك بالدنيا ويحبب إليك المعاصي، وأما المأكل الحلال فيقرب قلبك من المولى، عز وجل».

نعم؛ إن جميع الناس لا يمكن أن يكونوا متصوفين لأن الطبيعة البشرية تأبى ذلك، لكن يمكنهم أن يسيروا نحو صرح الفطرة ما أمكنهم ذلك. كذلك الجانب الروحي الذي له تأثير فعَّال في تقويم المنحرفين والضالين، هذا الجانب هو الأسمى في المنهج الصوفي. ولذلك عدَّ البعض التصوف من مميزات أهل السنة والجماعة.

هذه الميزات المتعددة جعلت من إمام كبير من أئمة أهل السنة والجماعة مثل فخر الدين الرازي ينقم على مؤرخي العقائد في عدم اعتبارهم للصوفية فرقة من الفرق الإسلامية. حتى إن الرازي قد قسم الصوفية إلى ست فرق فرعية، أعدلهم في نظره «أصحاب الحقيقة» كما سماهم، وهم الذين إذا فرغوا من الفريضة لم يشتغلوا بالنوافل الخاصة بالعبادات؛ بل بالفكر وذكر الله.

وأشر صنف عنده ألئك الذين ينادون برفع التكاليف الشرعية من على عاتقهم.

نعم ؛ هنالك أفعال وأقوال ظاهرها الشطح والهذيان من بعض المتصوفة، لكن المعرفة الحقيقية لدرب هؤلاء السالكين هي التي تُفهم غيرهم معنى أقوالهم وأفعالهم، وكما يقول الحلاج: «من لم يقف على إشارتنا، لم ترشده عبارتنا».

ويقول الإمام الشاطبي موضحًا المنهج السوي لفهم أقوال الصالحين، وغالبيتهم (الصوفيَّة)، يقول في الاعتصام ج2- 242: «فإِذا سَمِعْتُمْ بِحِكَايَةٍ تَقْتَضِي تَشْدِيدًا عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، أَو يَظْهَرُ مِنْهَا تنطُّع أَو تكلُّف،فإِما أَن يَكُونَ صَاحِبُهَا مِمَّنْ يُعتبر كَالسَّلَفِ الصالح، رضي الله عنهم،أَو مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُعرف وَلَا ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ عِنْدَ أَهل الحَلّ والعَقْد مِنَ العلماءِ، فإِن كَانَ الأَول فَلَا بُدَّ أَن يَكُونَ عَلَى خِلَافِ مَا ظَهَرَ لِبَادِيَ الرأْي، وإِن كَانَ الثَّانِي فَلَا حُجّة فِيهِ، وإِنما الحُجَّة فِي الْمُقْتَدِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ، صلَّى الله عليه وسلَّم».

فلكي نحكم عليهم علينا بالمعرفة الكاملة بحالهم ومقاصدهم التي يسيرون عليها؛ ليكون حكمنا خاليًا من الهوى والبهتان، ولأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ يجب علينا عدم إصدار الأحكام جزافًا بدون تروٍّ وتحقق.

ولأن التصوف طريقة منتهجة مبادئ الإسلام العليَّة؛ فإنه يأخذ بأيدي الإنسان إلى بر الأمان والاعتصام بالله الذي يُعطي توفيقه ومعيَّته لأحبابه، وهنا قصة حكاها الغزالي في الإحياء عن شاب صالح كان حسن السمت والمظهر ، نظرت إليه امرأة ذات جمال وعقل فشغفت به، وطال عليها ذلك، فلما كان ذات يوم وقفت له على الطريق وهو يريد المسجد فقالت له: يا فتى، اسمع مني كلمات أكلمك بها ثم اعمل ما شئت، فمضى ولم يكلمها، ثم وقفت له بعد ذلك على طريقه وهو يريد منزله، فقالت له: يا فتى، اسمع مني كلمات أكلمك بها، فأطرق مليًّا وقال لها: هذا موقف تهمة، وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعًا. فقالت له: والله ما وقفت موقفي هذا جهالة مني بأمرك. ولكن معاذ الله أن يتشوف العباد إلى مثل هذا مني، والذي حملني على أن لقيتك في هذا الأمر بنفسي معرفتي أن القليل من هذا عند الناس كثير، وأنتم معاشر العباد على مثال القوارير أدنى شيء يعيبها، وجملة ما أقول لك أن جوارحي كلها مشغولة بك، فالله الله في أمري وأمرك.

ثم مضى الشاب إلى بيته فأراد الصلاة ولكنه لم يعقلها؛ فأخذ قرطاسًا وكتب كتابًا ثم خرج من منزله، وإذا بالمرأة واقفة في موضعها فألقى إليها الكتاب، ورجع إلى منزله. وكان في الكتاب: «اعلمي أيتها المرأة أن الله، عز وجل، إذا عصاه العبد حلم، فإذا عاد إلى المعصية مرة أخرى ستره، فإذا لبس لها ملابسها غضب الله تعالى لنفسه غضبة تضيق منها السموات والأرض والجبال والشجر والدواب، فمن ذا يطيق غضبه؟ فإن كان ما ذكرت باطلًا فإني أذكرك يومًا تكون فيه السماء كالمهل، والجبال كالعهن، وبحثوا الأمم لصولة الجبار العظيم، وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي، فكيف إصلاح غيري، وإن كان ما ذكرت حقًّا فإني أدلك على طبيب هدى يداوي الكلوم الممرضة، والأوجاع المرمضة، ذلك الله رب العالمين، فاقصديه بصدق المسألة فإني مشغول عنك بقوله تعالى: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ۚ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، فأين المهرب من هذه الآية؟

ثم إنها جاءت بعد ذلك بأيام فوقفت له على الطريق، فلما رآها من بعيد أراد الرجوع لمنزله كيلا يراها فقالت: يا فتى، لا ترجع، فلا كان الملتقى بعد هذا اليوم أبدًا إلا غدًا بين يدي الله تعالى، ثم بكت بكاء شديدًا وقالت: أسأل الله الذي بيده مفاتيح قلبك أن يسهل ما قد عسر من أمرك!

ثم إنها تبعته وقالت: امنن علي بموعظة أحملها عنك.

فقال: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك، واذكري قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ.

فأطرقت وبكت بكاء أشد من بكائها الأول، ثم أفاقت ولزمت بيتها وأخذت في العبادة، ولم تزل على ذلك حتى ماتت كمدًا».

كيف وصل هذا الشاب لهذه المرحلة من الصلاح وتقوى الله؟!

إنه المنهج الذي يصفي النفس ويقيها من براثن الجهالة والانحراف. هذا المنهج المتمثل في الإسلام؛ والذي يسعى التصوف لتثبيت قواعده في نفوس العباد بالمجاهدة والرياضة.

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69].
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى} [النَّازعات:40-41].





1 تعليقات

تعليق:

أحدث أقدم

نموذج الاتصال