الطلاق بين الإمام محمد عبده والفقهاء




قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أبغضَ الحَلالِ إلى اللهِ الطَّلاقُ)

بـيّن النبي الأكرم أن الطلاق شيء ممقوت إلا لضرورة تبيحه، وهذه الضرورة لا بد وأن تكون قوية داعية للتفريق بين الزوج وزوجته؛ فالزوج الهازل الذي يتفوه بلفظ الطلاق لاعبًا ومازحًا مع أصحابه والناس.. صارت هذه ظاهرة قبيحة في عصرنا المتمدن!


وبما أن ظاهرة التلفظ بالطلاق – المُـفجعة – قد أضرت بالمجتمع حديثًا؛ وذلك لاستنادها إلى أمور هزلية تدعو للتلفظ بألفاظ الطلاق وكأنها لعبة في أيدي هؤلاء الرجال الذين لا يقدِّرون عاقبة ما تتفوه به ألسنتهم، كونهم رجالًا مؤاخذين بما ينطقون!


ومن هنا حاول الفقهاء والكثير من المصلحين إيجاد طريقة للحد من هذه الظاهرة التي تتسم بالصبيانية وعدم الرشد.

وقد أورده الشيخ السيد سابق في فقه السنة : اختلفت آراء الفقهاء في حكم الطلاق، والأصح من هذه الآراء رأي الذين ذهبوا إلى حظره إلا لحاجة، وهم الأحناف والحنابلة، واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لعن الله كل ذواق مطلاق.. ؛ ولأن في الطلاق كفراً لنعمة الله، فإن الزواج نعمة من نعمه، وكفران النعمة حرام، فلا يحل إلا لضرورة، ومن هذه الضرورة التي تبيحهُ أن يرتاب الرجل في سلوك زوجته، أو أن يستقر في قلبه عدم اشتهائها، فإن الله مقلب القلوب، فإن لم تكن هناك حاجة تدعو إلى الطلاق يكون حينئذ محض كفران نعمة الله وسوء أدب من الزوج، فيكون مكروهاً محظوراً.


ما يجب أن يسبق الطلاق


إن الطلاق الذي شرعه الله يختلف اختلافاً كبيراً عن الطلاق الذي ابتدعه السفهاء!
فالطلاق الذي شرعه الله لا بُدَّ أن يسبقه وعظهن، وهجرهن في المضاجع ، وآخر الدواء الكي إن كانت مريضة بالقسوة الجنسية.. ثم تتدخل الأسرة فتبعث حكما من أهله وحكما من أهلها.

إن الله عز وجل يوجهنا فيقول:

«وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا»

«وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا".

والأمر في الآية الأولى للوجوب ، وعلى أن الأمر للوجوب فقهاء الجعفرية من شيعة آل البيت والمالكية والشافعية.

وقد جاء في أحكام القرآن لابن العربي المالكي: "إذا علم الإمام من حال الزوجين الشقاق لزم عليه أن يبعث إليهما حكمين".

بل انظر الفهم الدقيق والاجتهاد الفطن من قبل فقهائنا رحمهم الله، لقد شدد الإمام ابن العربي المالكي في الأمر عندما "أوجب" على القاضي أن يرسل الحكمين بمجرد أن يعلم بالشقاق؛ سواء رفُع إليه الأمر أم لم يُرفع.
ويقول: لأنه انتظار رفع الأمر إليه يُضيع من حقوق الله من لا جبر له.

فهل نأمل فهمًا كهذا الفهم لمجتهدي حاضرنا ؟!

فحضور الحكمين قبل الطلاق ضرورة دينية وأسرية واجتماعية لحفظ الاستقرار والهدوء .



لكن هل للحكمين أن يفرقا بين الزوجين؟

ذهب الأحناف والظاهرية ومذهب الجعفرية من الشيعة أن هذا الأمر يختلف عن مهمتهما في العلاج والإصلاح. فليس لهما ذلك. ليس لهما إلا محاولة الإصلاح.

وذهب مالك والأوزاعي ورواية عن الإمام أحمد ومن قبلهم من السلف علي بن أبي طالب وابن عباس وسعيد بن جبير. يرون أن للحكمين إيقاع الفُرقة بين الزوجين إن تعسر الصلح.

وعلى المذهب الأول نرى الترجيح لأن الله عز وجل حدد مهمة الحكمين بالاصلاح في قوله: " إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا".

ويفضل أن يكون الحكمين من الأهل والعشيرة لوجود الأثر الإيجابي للأقرباء في الإصلاح بين الناس.

وقد أبلغ الشاعر حين قال:

واستخلصوا حكما من أهلكم وخذوا ** من أهلها حكماً واسترحموا القدرا
ولستُ أرضى سوى الأهلين محكمة ** وليبق سري وسرُّ البيت مدَّخرا
فإن قضى الله تفريقا فنازلة ** إن تلق صبرا فطوبى للذي صبرا
وربما كان في التفريق منفعة ** قد يبرأ الجسم من عضو قد انبترا



النية في الطلاق شرط للإيقاع

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيّات". والطلاق عمل يقصد به رفع قيد الزواج، وليس مجرد لفظ يُقال؛ لأن اللفظ دليل على النية، وما دام الطلاق عملًا شرعيًّا يترتب عليه حقوق وأحكام مدنية كالنسب، والميراث، والنفقة، والزواج...

لقد فهم الفاروق عمر مقاصد الإسلام ومراميه السمحة المجمعة لا المفرقة.. كيف لا وهو من تلاميذ النبي - صلى الله عليه وسلم – المقربين!


فقد روي أن أمرأة قالت لزوجها: سمّنى. أي اختر لي اسماً.
فقال لها: أنت طيبة.
قالت: لا. اختر لي اسماً آخر.
قال: اختاري أنت.
فقالت: خليّة طالق. أو خليلة طالق.
فقال لها: أنت خليّة طالق.
فذهبت إلى عمر وقالت له: إن زوجي طلقني.
قال لي أنت خليّة طالق.
فأتى الرجل وقص عليه الخبر.
فأوجع عمر رأسها.
وقال الرجل: خذ امرأتك وأرجع رأسها.


إن فقه عمر - رضي الله عنه - جعله لا يتسرع في الحكم للمرأة بأنّها قد طلقت. ونكرر ما قلناه قبل: هل نأمل فهمًا كهذا الفهم لمجتهدي حاضرنا ؟!

بل انظر لشيخ الإسلام ابن تيمية عندما سئل رحمه الله تعالى عن رجل ظن أن امرأته سرقت منه مالا فحلف بالطلاق أنها إذا لم تأت بالمال فإنه سيخرجها من بيته، فأجاب : "إذا اعتقد أنها خانته فحلف إن لم تأت بذلك لأخرجها لأجل ذلك ثم تبين أنها لم تخنه لم يكن عليه أن يخرجها ولا (حنث عليه) ".



الطلاق عند الأستاذ الإمام محمد عبده


كثيرًا ما تسبب «التلفظ بالطلاق» في هدم الأُسر وتفتيت الوحدة الاجتماعية. ومع أن الطلاق في الأصل مسؤولية فردية شرعية إلا أن تحقيقه – شكليًّا – في الدولة بين الزوجين ينبغي أن يُراعى فيه عرف الدولة وحال المجتمع.

لأجل هذا فقد اجتهد الأستاذ الإمام محمد عبده – رحمه الله تعالى – بعقله المنير في وضع نظام يضبط ويُقنن مسألة «التلفظ بالطلاق» في الدولة، يقوم هذا النظام على أسس متينة وشروط رصينة.

يقول الإمام محمد عبده: «نحن في زمان أَلفَ رجال فيه الهذر بألفاظ الطلاق، فجعلوا عصم نسائهم كأنها لعب في أيديهم يتصرفون فيها كيف يشاؤون ولا يرعون للشرع حرمة ولا للعشرة حقًّا. فمع ظهور الفساد في الأخلاق والضعف في العقول، وعدم المبالاة بالمقاصد، فلم لا يجوز أن يؤخذ بقول بعض الأئمة من أن الاستشهاد شرط في صحة الطلاق، كما هو شرط في صحة الزواج، كما تُشير الآية في سورة الطلاق التي جاء في آخرها (وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)؟

أليس هذا أمرًا صريحًا بالاستشهاد؟ واعتبار ذلك ركنًا بدونه لا يكون الطلاق الذي يقع الآن بكلمة خرجت عن غير قصد ولا رويَّة في وقت غضب صحيحًا. نظن أن فى الأخذ بهذا الحكم موافقة لآية من كتاب الله ورعاية لمصالح الناس.

وما يدرينا!؛ لعل الله سبحانه وتعالى قد اطلع على ما تصل إليه الأمة في زمان كزماننا هذا، فأنزل تلك الآية الكريمة لتكون نظامًا نرجع إليه عند الحاجة كما هو شأننا اليوم.



أركان ومواد "نظام الطلاق" عند الإمام محمد عبده

ثم يضع الاستاذ الإمام خمس قواعد على هيئة مواد قانونية يُقام عليها نظام الطلاق وهي كالاتي:

  1.  الحضور أمام القاضي أو المأذون والإخبار بسبب الشقاق بين الزوجين.
  2.  يجب على القاضي تذكير الزوج بتبعات هذا الأمر، وإرشاده إلى محظورية الطلاق إلا للضرورة القصوى. ثم يأمره أن يتروى مدة أسبوع.
  3.  بعد مضي الأسبوع مع وجود الإصرار على الطلاق يبعث القاضي حكمًا من أهل الزوج وحكمًا من أهل الزوجة أو عدلين أجانب ليصلحا بينهما.
  4.  إن لم ينجح الحكمان في الإصلاح بين الزوجين فعليهما بتقديم تقرير للقاضي أو المأذون، وعندئذ يأذن المأذون للزوج في الطلاق.
  5.  لا يصح الطلاق إلا إذا وقع أمام القاضي أو المأذون، وبحضور شاهدين، ولا يقبل إلا بوثيقة رسمية.



هل هناك ما يمنع الطلاق على هذه الصورة شرعيًّا وفقهيًا؟

لقد قرر الشرع أن الطلاق مسئولية فردية، وهو عمل شرعي تترتب عليه حقوق. فإذا نُظِّم هذا العمل بقانون منضبط يُراعي الحقوق والمقاصد العامة للاستقرار، كان ذلك أحرى أن يكون اتباعًا للشرع حفاظًا على الوحدة والاستقرار. فلا يوجد عائق شرعي لتنظيم الطلاق على هذا الشكل في المجتمع؛ بل إن الضرورة الاجتماعية والمقاصد الكلية للدين يحثان على تنظيم وتقنين مثل هذه الأمور.



إننا لا نتزندق حينما نؤيد الأستاذ الإمام محمد عبده فيما ذهب إليه، ولا نضرب بديننا ومذاهبنا عرض الحائط، ولا نخفض من قيمة الآراء الفقهية السالفة... ولكننا بإجمال نجتهد وفق المصالح العامة للناس والأُسرة؛ فهذا من مقاصد ديننا وهدف إسلامنا السمح.

فالأولاد لا ذنب لهم في أن تضيع حقوقهم في المجتمع الذي أصبح لا يتعامل إلا بالمواثيق الورقية؛ وقد كانت المواثيق قبلُ عــرفية شفوية بالكلمة لأن الناس قديمًا تغلب عليهم الوفاء وصدق العهد والمعاهدة.. أما اليوم فقد انقلب الحال لغير الحال حتى أصبح المخالف زنديقًا مبتدعًا مُجرمًا في نظر الغلاة!


___________________________________

المصادر:

  1. أحكام القرآن جـ 3 ص 261.
  2. كتاب الأم جـ 3 ص 261.
  3. المفصل جـ 8 ص 416.
  4. أحكام القرآن القرطبي جـ 1 ص 427.
  5. مغني المحتاج جـ 3 ص 261..
  6. المغني لابن قدامة جـ 7 ص 49.
  7. مجموع الفتاوى لابن تيمية:33/229-230(.
  8. فقه السنة للشيخ سيد سابق.
  9. الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده.الجزء الثاني في الكتابات الاجتماعية ، تأليف الدكتور محمد عمارة.
  10. ساسة بوست: محمد عبيد

إرسال تعليق

تعليق:

أحدث أقدم

نموذج الاتصال