القرآن الكريم مفتاح تهذيب النفس ورقيها




إنك حين تُــقبل على كتاب الله عز وجل تُدرك أنك تسير نحو صرح كبير من المكارم والحضارة والحب، فحين تأتي للأخلاق تجده أسمى كتاب عرفته البشرية مؤسسًا لمكارم الأخلاق الحميدة، وهذا ما جعلها الغرض العام من مبعثِ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: “إنما بُــعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”. بل جعل من حسن الخُلق طريقًا موصلًا لحب الله وحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: “أقربكم مني منزلاً يوم القيامة أحسنكم أخلاقًا”.

ولما كانت المعرفة هي العنصر الأساسي لقيام الحضارة وارتقائها، أمر الإسلام بها وبيّن أنه لا بد أن تكون هذه المعرفة معرفة صحيحة هادفة، ولا بد أن تقوم على أساس سليم، وهذا الأساس السليم هو الذي يضبط معرفتنا وتفكيرنا فلا نحيد في المعرفة عن الصواب ولا ندعي مُحالًا، ولا نفتخر برذيلة أو نتمناها.. ولأجل هذا كان واجب على من يسعى للمعرفة أن يعتقد اعتقادًا لا شك فيه أن الحضارة إذا قامت فلن يكتمل طريق لها في الرقي والتقدم إلا من خلال منهج مرسوم معلوم مضبوط، فلا بد من استحضار وجهة السير قبل الشروع في أي عمل.

ولذلك كانت الحضارة الإسلامية أعظم الحضارات وأقواها حينما وجدت، وذلك لوجود الاعتقاد الصحيح الذي اعتنقه واعتقده الصحابة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصنعوا بيئة صالحة من اعتقادهم السليم.

وفي هذا يعترف الفيلسوف جوستاف لوبون عن فضل المسلمين حينما كانوا يُطبقون الإسلام:

لم يقتصر فضل العرب والمسلمين في ميدان الحضارة على أنفسهم فقد كان لهم الأثر البالغ في الشرق والغرب فهما مدينان لهم في تمدنهم، وإن هذا التأثير خاص بهم وحدهم فهم الذين هذبوا بتأثيرهم الخلقي البرابرة.

ويتجلى الحُب في قرآننا تجليًا عظيمًا حيث أنزله الله تعالى حبًا في هداية عباده والأخذ بأيديهم إلى النور والهدى.. وبهذا القرآن كنا أعز الأمم بعدله وقيمه وسماحته، يقول الشيخ حسن البنا: “عرف سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم- فضل القرآن وتلاوته، فجعلوه مصدر تشريعهم، ودستور أحكامهم، وربيع قلوبهم، وورد عبادتهم، وفتحوا له قلوبهم وتدبروه بأفئدتهم، وتشربت معانيه السامية أرواحهم، فأثابهم الله في الدنيا سيادة العالم، ولهم في الآخرة عظيم الدرجات، وأهملنا القرآن فوصلنا إلى ما وصلنا إليه من ضعف في الدنيا ورقة في الدين”.

فضل القرآن الكريم

في فضل مدارسة القرآن: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “وما اجْتَمعَ قومٌ في بَيتٍ من بُيوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْ بِهِمُ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ” رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.

الحرف الواحد من كتاب الله بعشر حسنات. عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “مَن قَرأَ حَرفًا من كِتابِ اللهِ فلَهُ بهِ حسَنَةٌ والحَسنةُ بِعَشرِ أمْثالِها لا أقُولُ: آلم حَرفٌ ولكنْ ألفٌ حرفٌ ولامٌ حرفٌ وميم ٌحرفٌ” رواه الترمذي والدارمي.

شفاعة القرآن لأصحابه يوم القيامة: عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “اقْرَءُوا القُرآنَ فإنَّهُ يأْتي يومَ القِيامَةِ شَفيعًا لأصْحابِهِ” رواه مسلم.

فضل الذين يَعمَلُونَ بالقرآن: عن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- يقول: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: “يؤتى بالقرآنِ يوم القيامةِ وأهلهُ الذينَ كانوا يَعمَلُونَ به، تَقدمهُ سورةُ البَقرةُ وآلُ عِمرانَ وَضَربَ لهمَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةُ أمثالٍ ما نَسيتُهُن بعد قال كأنهما غمامتان أو ظُلتان سوداوان بينهُما شرق أو كأنهما حِزقان من طيرٍ صوافٍ تحاجّان عن صاحبِهِما” رواه مسلم.

وعند البخاري من حديث أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة طعمها طيب ولا ريح لها”.

ويقول ابن القيم:

أهل القرآن هم العالمون به والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم.

رفعة أهل القرآن ولو كانوا مماليك: فعن نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ أنه لَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِعُسْفَانَ وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه اسْتَعْمَلَهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي قَالَ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمْ ابْنَ أَبْزَى قَالَ وَمَا ابْنُ أَبْزَى فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ مَوَالِينَا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى فَقَالَ إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ قَاضٍ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- قد قال: “إنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذا الكِتَاب أَقْوَاماً وَيَضَعُ بِهِ آخَرِين” رواه مسلم.

فضل حافظ القرآن وما له من الأجور العظيمة: عن بُرَيْدَةَ -رضي الله عنه-: قال: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فَسَمِعْتُهُ يَقُول: “وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَأْتِي صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ بِالْهَوَاجِرِ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولانِ: بِمَ كُسِينَا هَذَا؟ فَيُقَالُ لَهُمَا: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلا” رواه أحمد وابن ماجة.

أسباب النصر بثقة القرآن

يأمر الله عز وجل أهل القرآن بالاستعداد المادي والمعنوي لبطش الأعداء وظلم الخصوم فيقول: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ). وتأمل قوله تعالى وهو يخاطب نبيه ويرشده إلى الاهتمام بالأسباب المعنوية، وأنها هي السبب الرئيسي لاستجلاب النصر: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ – إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

وعندما أمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام أن ينادي على الناس، داعيًا إياهم إلى الحج (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً). قال عليه السلام: يارب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال تعالى: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه، فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب.

يقول محمد الغزالي -رحمه الله-: الأمة التي نزل عليها القرآن فأعاد صياغتها هي المعجزة التي تشهد للنبي -عليه السلام- بأنه أحسن بناء الأجيال، وأحسن تربية الأمم، وأحسن صياغة جيل قدم الحضارة القرآنية للخلق.. فنحن نرى أن العرب عندما قرأوا القرآن، تحولوا إلى أمة تعرف الشورى وتكره الاستبداد، إلى أمة يسودها العدل الاجتماعي ولا يُعرف فيها نظام الطبقات، إلى أمة تكره التفرقة العنصرية، وتكره أخلاق الكبرياء والترفع على الشعوب.

هل نأمل في نصرة ربنا لنا؟

عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها” فقال قائل: وقلة نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن” فقال قائل: وما الوهن؟ قال: “حب الدنيا وكراهية الموت”. ولقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بأن المخرج من هذه الفتن وهذا الوهن هو القرآن، لأنه سيعالج السبب الذي من أجله ضعفت الأمة وهانت على الله.

عن الحارث الأعور قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت عَلَى عليَّ رضي الله عنه فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: أوَ قد فعلوها؟ قلت: نعم. قال أما إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “ألا إنها ستكون فتنة”. فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: “كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى تقول: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا – يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ)، من قال به صَدَق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عَدَل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم”.

ولقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى في حديثه لحذيفة بن اليمان حين أخبره بالاختلاف والفرقة بعده، فقد قال حذيفة للرسول عليه الصلاة والسلام عندما سمع ذلك: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: “تعلم كتاب الله عز وجل، واعمل به فهو المخرج من ذلك” قال حذيفة: فأعدت عليه ثلاثًا، فقال صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: “تَعَلَّم كلام الله واعمل به فهو النجاة”.

يقول محمد الغزالي رحمه الله:

لابد من جعل القرآن يتحول في حياتنا إلى طاقة متحركة.. أما أن يوضع في المتاحف أو المكاتب للبركة، أو أن نفتح المصحف ونقرأ آية أو آيات وينتهي الأمر، هذا لا يجوز.

ويقول حسن البنا رحمه الله: لم ينزل القرآن من علياء السماء على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون تميمة يُحتجب بها، أو أورادًا تُقرأ على المقابر وفي المآتم أو ليُكتب في السطور، ويُحفظ في الصدور، أو ليحمل أوراقًا ويُهمل أخلاقًا، أو ليحفظ كلامًا ويُهجر أحكامًا.. وإنما نزل ليهدي البشرية إلى السعادة والخير (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ – يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).

القرآن.. حفظ أم عمل؟

إن الفضل العظيم لحفظ القرآن مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعمل به، فإن لم يُعمل به كان وبالاً على صاحبه، كيف لا وهو يتلو على الناس آيات لا يعمل بها، فيصير ما يقوله في واد، وما يفعله في واد آخر، فيصدق عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: “أكثر منافقي أمتي قراؤها”.

يقول عبد الله بن عمر: كنا صدر هذه الأمة، وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما معه إلا السورة من القرآن أو شبه ذلك، وكان القرآن ثقيلاً عليهم، ورزقوا العمل به، وإن آخر هذه الأمة يخفف عليهم حفظ القرآن حتى يقرأه الصبي والأعجمي فلا يعملون به.

وهذا أبو عبد الرحمن السلمي -وهو من كبار التابعين- وكان ممن تتلمذ على يد كبار الصحابة كعبد الله بن مسعود يقول: إنما أخذنا القرآن من قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخرى حتى يعلموا ما فيهن من العمل، فتعلمنا العلم والعمل جميعًا، وإنه سيرث القرآن من بعدنا قوم يشربونه شرب الماء، لا يجاوز هذا وأشار إلى حنكه.

فالحفظ والعمل سياج الرُقي والحضارة، وحافظ من النفاق والضلال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ)، (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).

كيف رسخت آيات القرآن “العدل” بين البشر؟

إليك مثال يجلي لك حقيقة هذا الأمر؛ فقد حدث عندما سرق رجل من المسلمين من إحدى قبائل الأنصار من بني أبيرق بن ظفر بن الحارث، وكان هذا الرجل قد سرق درعًا من جارٍ له مسلم يقال له: «قتادة بن النعمان»، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له: «زيد بن السمين»، فالتُمِسَتِ الدرع عند «طعمة» فحلف بالله ما أخذها، فقال أصحاب الدرع: لقد رأينا أثر الدقيق في داخل داره.

فلما حلف تركوه، واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي، فوجدوا الدرع عنده، فقال اليهودي: دفعها إليَّ طعمة بن أُبيرق!

فجاء بنو ظفر -وهم قوم طعمة- إلى رسول الله، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم، فهَمَّ رسول الله أن يعاقب اليهودي، فأنزل الله هذه الآيات من سورة النساء: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) إلى قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا).

يقول الشيخ الشعراوي: لقد اعتقد رسول الله أن السارق هو اليهودي لوجود القرائن ضده، ولكن الوحي نزل بخلاف ذلك؛ فلم يكتم شيئًا -وحاشاه- بل قام وأعلن بوضوح وصراحة أن اليهودي بريء، وأن السارق مسلم!

وليس الأمر هينًا..! إن التبرئة تأتي في حق يهودي اجتمع قومه من اليهود على تكذيب الإسلام، والكيد له، والطعن في رسوله، وبثِّ الفرقة بين أتباعه.. ومع ذلك، فكل هذه السلبيات والخلفيات لا تبرِّر اتهام يهودي بغير حق.

إنه عدل الإسلام الذي أنار الطريق للناس بهدى آياته المباركة (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ).

الخلاصة

إن سر تقدمنا مرتبط بمدى علاقتنا بالله، وأننا لابد أن نجتهد في الأخذ بالأسباب المادية بالمفهوم الذي يسود بيننا الآن, ولكن بعد أن نجتهد في الأخذ بالأسباب المعنوية التي تُعنى بصلاح الفرد كأساس للنجاح في كل الميادين. فالأمة بحاجة إلى الربانيين أولاً ليكونوا بعد ذلك في المكان الذي يقيمهم الله فيه، أما بدون رهبان الليل، البكائين بالأسحار، فلا أمل في تقدم ولا رفعة بل سيستمر الوضع القائم وسيزداد سوءًا.

ألم يقل سبحانه: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ – إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ).

وبهذا المفهوم انتصر المسلمون الأوائل على أعدائهم.. تأمل ما قاله سعد بن أبي وقاص لعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- وهو يصف له المجاهدين في معركة القادسية، كانوا يُدَوُّون بالقرآن إذا جنَّ عليهم الليل كدويِّ النحل وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود، ولا يفضل من مضى منهم من بقي إلا بفضل الشهادة”.

يقول سيد قطب رحمه الله: إن هذه البشرية -وهي من صنع الله- لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده -سبحانه- وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق، وشفاء كل داء: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).

1 تعليقات

تعليق:

أحدث أقدم

نموذج الاتصال