يا باغي الخير أقبل!
إلى من يتطلع للخير ويسعى في طُرقه، إلى من يشغف قلبه بالنور، إلى من يبحث عن هداية تضيء له الدرب وتصل به إلى النجاة الأبدية؛ هلمّ، واقبل على النداء المقدس، نداء الحق والهداية.
ما أبلغ وأعظم أن يُسمع الإنسان هذا النداء الصادق، فتُفتح أمامه أبواب الرحمة ويُدعى إلى الخير الأعظم، فكيف بنا ونحن نشهد هذا النداء ينطلق من السماء عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أُرسل بالهدى إلى الجن والإنس كافة!
يا قومنا أجيبوا داعي الله
قال الله تعالى في سورة الأحقاف:
"وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ، يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ".
في هذه الآيات العظيمة، نشهد واقعة من الوقائع الملهمة التي تخبرنا عن دعوة الله، عن مشهدٍ من مشاهد الهداية حين صرف الله نفرًا من الجن ليستمعوا إلى القرآن الكريم. لقد كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عابرة للإنسانية؛ لم تقتصر على جنسٍ دون آخر، بل شملت الجن والإنس، وها نحن نرى كيف سمع الجن واهتدوا، بل عادوا إلى قومهم مُبشرين ومنذرين بما سمعوا.
حكاية اللقاء واستجابة الدعوة
رواية هذا اللقاء بين النبي صلى الله عليه وسلم ونفر من الجن تفيض بالروحانية والمعاني العميقة؛ فقد روي أن النبي الكريم كان قد اصطحب أحد صحابته في إحدى الليالي، ثم خط له خطًا وقال له: "لا تتجاوزه".
وجلس النبي في خلوته يتلو القرآن، فكانت لحظة خشوع استمع فيها الجن لما يتلى عليهم من آيات الله.
ولم يكن استماعهم استماعًا عابرًا، بل استغرقوا في الإنصات، أصغوا بكل جوارحهم؛ فأدركوا أن هذا الكلام ليس كسائر الكلام، أنه كلام الله الذي يهدي إلى الحق، كلام يشمل كل معاني الخير والهداية.
قالوا لبعضهم بعضًا "أنصتوا"؛ وكأنهم أرادوا أن يبلغوا قلوبهم وأرواحهم كل كلمة، أن يدركوا كل معنى وكل إشارة، واستمر هذا الاستماع المتأمل حتى انقضى النبي صلى الله عليه وسلم من تلاوته، وانطلقوا عائدين إلى قومهم برسالة الحق، مملوءين بالنور والإيمان.
الاندفاع بالتبليغ والإنذار
تعبير "ولّوا" يعبّر عن انطلاقهم بالسرعة القصوى، فهم لم يعودوا فقط، بل اندفعوا كمن حمل رسالة مستعجلة يجب إيصالها على الفور، يملؤهم الحماس والغيرة على قومهم، كانوا يعلمون أن ما بين أيديهم رسالة تنير الطريق وتدلّ على الخلاص، لم يتوجهوا إلى قومهم بعبارات الاعتياد، بل قالوا لهم إنهم سمعوا "كتابًا أُنزِلَ مِن بَعدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ"، فكانت دعوتهم عميقة المعنى، واضحة المقصد.
وهم في دعوتهم هذه لم يأتوا بقصد التبشير فقط، بل بالإنذار؛ لأن قومهم كانوا في غفلة عميقة، وقد يوقظهم الإنذار من سبات الغفلة، وهذا الإنذار كان يحمل الدعوة إلى الحق والصدق، فالبشارة ستأتي لاحقًا، في حين أن الخروج من الظلمات يحتاج إلى إنذار يقطع أسباب الغفلة ويفتح الأعين على نور الحق.
رسالة القرآن: حقٌ وطريق مستقيم
لقد أدرك الجن ما ينطوي عليه هذا الكتاب؛ فهو كتاب يهدي إلى الحق، ومن ثم إلى الطريق المستقيم، وهذا الوصف يحمل دلالات عظيمة تتصل بفطرة التوحيد وبتوجيه الإنسان نحو الإيمان الخالص.
وهكذا فإنهم قدموا لقومهم خلاصة ما استقر في قلوبهم، وبيّنوا لهم أن القرآن لم يأت ليناقض ما جاء به موسى عليه السلام، بل هو مصدقٌ للكتب السابقة، مهديًا إلى جوهرها، ومحققًا لمعانيها.
يقولون لقومهم: "يهدي إلى الحق"، أي أنه يدعو إلى الكمال والنقاء الذي يتفق مع الفطرة، وأنه يضعهم على طريق مستقيم، طريق النجاة والهدى، فهم لم يكتفوا بالوصف، بل نقلوا المعنى كاملاً ليكون هاديًا وموضحًا لما يجب عليهم اتباعه.
بشائر الرحمة والمغفرة
ثم تأتي البشارة في النهاية، بشارة تتوّج دعوة الإنذار وتغمرها برحمة الله، "يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ".. فما أبلغ هذا القول حين يأتي في ختام الدعوة؛ فهو يمثل التحفيز الإيجابي بعد التحذير، والرحمة بعد الإنذار.
تتحدث هذه البشارة عن الغفران، وكأنهم يقولون لقومهم: إن هذا الطريق لن يكون حافلًا بالعقبات فقط، بل إن فيه وعدًا بالعفو، وبداية جديدة من غير أثقال الذنوب والمعاصي، وأيضًا وعدًا بالنجاة من العذاب الذي لطالما كان مصدر خوف وقلق.
إن هذه الدعوة تحمل في جوهرها شرطًا لا بد من تحقيقه، وهو الإيمان، فلا تُستجاب دعوة ولا تفتح أبواب المغفرة إلا لمن استجاب لداعي الله وآمن به، فمن اتبع هذا الداعي نال المغفرة والرحمة، وفاز بالنجاة من كل ألم وبلاء.
استجابة الدعوة: السبيل إلى الفلاح والنجاة
هكذا تكتمل رسالة "يا قومنا أجيبوا داعي الله"، فهي ليست مجرد نداء، بل هي تحفيزٌ للنفوس، تنبيهٌ للأرواح، وتوجيهٌ للقلوب.
وفي الحديث النبوي الشهير عن جبريل، الذي جاء جبريل إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ فسأله: قال: يا محمد , أخبرني عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله , وتقيم الصلاة , وتؤتي الزكاة , وتصوم رمضان , وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ) . قال : صدقتَ , قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه . قال : فأخبرني عن الإيمان ؟ قال : ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر , وتؤمن بالقدر خيره وشره ) . قال : صدقت . قال فأخبرني عن الإحسان ؟ قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه , فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) . قال : فأخبرني عن الساعة ؟ قال : ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل ) . قال : فأخبرني عن أمارتها ؟ قال : ( أن تلد الأمة ربَّتها , وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاءَ الشاء يتطاولون في البنيان ) . قال : ثم انطلق , فلبثتُ ملِيَّا , ثم قال لي : ( يا عمر , أتدري من السائل ؟ ) . قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ( فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) .
نجد عرضًا شاملًا لأركان الدين من إسلام وإيمان وإحسان، مما يضعنا أمام خريطة مفصلة للنهج الديني المتكامل؛ حيث جاء جبريل عليه السلام ليعلم المسلمين دينهم، ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم أسئلةً عميقة حول مفاهيم أساسية تقود المسلم إلى النضج الروحي والسلوكي.
أركان الإسلام: الشهادة، الصلاة، الزكاة، الصيام، والحج
في جوابه عن الإسلام، وضّح النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يرتكز على خمس دعائم، تبدأ بالشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتستكمل بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، ويمثل هذا الركن الشهادة باللسان والاعتقاد بالقلب بأن الله هو الواحد الأحد، وأن محمدًا هو رسوله، وهي أول عتبة يسلكها المسلم ليصل إلى الله.
يأتي بعدها العمل القلبي، مع الإتيان بالصلاة التي تمثل صلة العبد بخالقه، وتليها الزكاة التي تطهر النفس من الشح، مروراً بالصيام الذي يربي المسلم على الصبر، وختامًا بالحج الذي يعمّق معنى الإخاء والتقوى.
أركان الإيمان: المعتقدات الست
ثم يأتي الحديث عن الإيمان، وهو ما يتعلق بالعقيدة القلبية. فالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره يشكل قاعدة أساسية تُبنى عليها تصرفات المسلم، فالإيمان بالله يقوم على اعتقاد راسخ بوجود الله وألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته.
أما الإيمان بالملائكة فيتطلب اعترافاً بالكائنات التي خلقها الله لطاعته وخدمته، كما أن الإيمان بالكتب يعكس الثقة فيما أنزله الله من هداية للبشر، وبهذا يصل المسلم إلى الإيمان بالرسل الذين أرسلهم الله، وباليوم الآخر الذي تُحاسب فيه النفوس على ما قدمت. وأخيراً، الإيمان بالقدر يعلمنا أن ما يحدث في حياتنا هو بقضاء الله.
الإحسان: ذروة العبودية
أما الركن الثالث، وهو الإحسان، فيعبّر عن قمة الالتزام الديني، حيث عرّفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
هذا المفهوم يدعو المؤمنين إلى استحضار مراقبة الله الدائمة، مما يجعلهم يعيشون في حالة من الصفاء والتقوى، ويدفعهم إلى تجنب المعاصي ومخالفة أوامر الله.
استجابة العبد لله ورسوله
يأمرنا الله تعالى في القرآن الكريم قائلاً: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ"، فالمؤمن الحق لا يكتفي بالإيمان المجرد، بل يجب أن يصاحبه العمل الصالح والاستجابة الفعلية لأوامر الله وسنة رسوله.
فالإجابة تبدأ من القلب بتصديق الله ورسوله، أما الاستجابة فتكون بالفعل والسلوك، وهذه الاستجابة تأتي في وقتها تمامًا كما حصل مع الصحابة حين استجابوا للأمر بتحريم الخمر فور صدوره.
ويبين النص القرآني أن الله تعالى قد يحول بين المرء وقلبه، فماذا يكون حال المرء إذا ران على قلبه؟
هذا الحول ليس مطلقًا وإنما يحدث إذا أعرض العبد عن الله. ومع ذلك، فإن الله من رحمته يرفع هذا الحول إذا أناب العبد وتاب، بل يفرح الله بتوبته، كما يفرح الشخص بعودة ما فقده.
يقول ابن القيم: إن فرحة الله بتوبة عبده هي سرٌّ من أسرار المحبة واللطف الإلهي، تعمّق الصلة بين العبد وربه وتفتح باب التوبة والأمل.
الإستقامة: المستوى التالي بعد الإيمان والاستجابة
الإيمان والاستجابة لله ولرسوله يقودان المسلم إلى مستوى أعلى هو الاستقامة. فالاستقامة تعني الالتزام الكامل بعبادة الله والسير على طريقه دون تراجع، وقد جاءت في قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ".
وهذه البشرى تأتي جزاءً على التزامهم الكامل بأوامر الله، ويعيشون بذلك في سكينة وطمأنينة مستمدة من رضى الله.
يشير القرآن إلى أن "قالوا ربنا الله" هي المرحلة الأولى من الإجابة، و"ثم استقاموا" تأتي بعدها كتعبير عن الاستجابة الكاملة.
ويضفي هذا التدرج النفسي والروحي ثباتًا على قلب المؤمن، حيث يصبح على استعداد لتلبية أوامر الله بسرعة وبدون تردد، كما فعل الصحابة في تفاعلهم السريع مع تعاليم النبي.
الإحسان: أسمى مراتب القرب من الله
حين يصل المسلم إلى مرتبة الإحسان، يكون قد بلغ أعلى مراتب القرب من الله، حيث يصبح المسلم عبدًا لله في كل أفعاله وأقواله، يتفكر في الله كأنه يراه، ويعمل بكل صدق وإخلاص متذكرًا مراقبة الله له.
ولعل هذا هو السر في أن الإحسان يأتي كخاتمة للإيمان والإسلام، حيث يمثل حالة من الصفاء والإخلاص في العبادة تجعله يحيا في نور الله ويقترب من جلاله.
إن الإحسان يتجاوز الأعمال الظاهرة إلى عمق القلب والنوايا؛ فالعمل بصدق مع استحضار مراقبة الله هي جوهر الإحسان، مما يجعل المسلم يشعر بمعية الله ويطمئن قلبه.