نظرية المعرفة عند ألفريد نورث وايتهيد

الفلسفة فروع مختلفة كما هو معروف ، وأهم هذه الفروع الأنطولوجيا أو مبحث الوجود، والميتافيزيقيا، وفلسفة العلوم، والابستمولوجيا Epistemoloy أو نظرية المعرفة ، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة السياسة، وفلسفة الجمال.

ويتميز كل فرع بمباحثه أو موضوعاته شبه المحددة. ومن الفلاسفة من زاد اهتمامه بأحد هذه الفروع أو أكثر دون باقي العلوم الفلسفية .

ويهمنا هنا مبحث نظرية المعرفة . ويعتبر السوفسطائيون وأفلاطون رواد البحث في نظرية المعرفة ، كما يمكن القول أن الفلاسفة المحدثين اهتموا اهتماما أساسيا بنظرية المعرفة ، يتضح ذلك في فلسفات دیکارت ولوك وهيوم وكانط. نلاحظ أيضا أن الفلسفة الإنجليزية المعاصرة منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم ازداد اهتمامها بنظرية المعرفة، ويتمثل ذلك في فلسفات الهيجليين الجدد مثل توماس هل جرین و برادلي و بو زانکیت ، وفلسفات التجريبيين مثل جون ستوارت مل وجورج مور و برتراند رسل ومدرسة فتجنشتين والفرد إير وغيرهم .

وقد اهتمت الفلسفة الفرنسية المعاصرة بنظرية المعرفة ، وزاد اهتمامها في مجال المعرفة بوجه خاص بنظرية نقدية إلى مناهج العلوم المختلفة وتطورها، ومعها نظرة فلسفية إلى النظريات العلمية المعاصرة مثل الكوانتم والنسبية ، مثلما نجد عند مایرسون و برنشفيك وباشلار وبلانشيه وغيرهم. [1]

إن موضوعات البحث الفلسفي متشعبة ومختلفة مما یخلق آرء مختلفة ومتباینة عند كثیر من الفلاسفة والمفكرین كل حسب توجهه و اختیاره فهناك من اتجه إلى المیتافزیقا ومنهم من اختار فلسفة اللغة أو فلسفة التاریخ وغیرها من المجالات الفلسفیة الأخرى.

و من بین أهم المباحث الفلسفیة نجد نظریة المعرفة كونها تهتم بأساسیات المعرفة لدى الإنسان.

-فالمعرفة أساس فكر البشر ومنطلقة فهي من أهم المباحث الفلسفیة التي یتم من خلالها تحدید موقف الإنسان من الحقیقة ومنهجه في الوصول إلیها، وهي تحتل مكانا أولیا في الفلسفة الغربیة وتبحث في مبادئ المعرفة الإنسانیة وطبیعتها ومصدرها وقیمتها كما أنها تبحث في الوسائل التي تأتي عن طریقها المعرفة.

-وتعد المنبع دائم العطاء وعبر عصور التاریخ وما تتفرع عنها من علوم وازدهار حضاري.

ومن بین أهم الفلاسفة الذین بحثوا في هذا المجال اهتماما كبیرا نجد الفیلسوف الانجلیزي " ألفريد نورث وايتهيد ".

تكمن في أن المعرفة مشكلة أساسیة نالت اهتماما كبیرا من طرف فلاسفة العصر الحدیث وأیضا إفادة القراء والباحثین بمختلف المعلومات، فالمعرفة بوصفها نامیة بفضل التأثیر الفعال للإنسان في الحیاة أصبحت المعرفة هدفا یصبوا إلیه كل إنسان وأصبحت حاجة ملحة للبحث عن الحقیقة وادراكها ٕ بالإضافة إلى أنها تحتل المكانة الأولى من كل مباحث الفلسفة. 1


التعريف بالفيلسوف *

ألفريد نورث وايتهيد (1861-1947) كان عالماً رياضياً ومنطقياً وفيلسوفاً بريطانياً اشتهر بعمله في المنطق الرياضي وفلسفة العلم. وقد شارك مع برتراند راسل في تأليف الكتاب البارز٬ المكون من ثلاثة مجلدات٬ “مبادئ الرياضيات – Principia Mathematica”) 1910، 1912، 1913). وكان له فيما بعد دور فعال في ريادة النهج المتبع إزاء الميتافيزيقيا والذي يعرف الآن باسم فلسفة العملية (process philosophy).

على الرغم من وجود ملامح مستمرة هامة طوال حياة وايتهيد المهنية، إلا أنه كثيراً ما تُقسم قسم حياته الفكرية إلى ثلاث فترات رئيسية. تتزامن الفترة الأولى بشكل عام مع الوقت الذي قضاه في كامبريدج، من 1884م إلى 1910م، حيث عمل خلال هذه السنوات بشكل أساسي على مسائل في الرياضيات والمنطق. وخلال هذه الفترة أيضاً تعاون مع برتراند راسل.

وتتزامن الفترة الرئيسية الثانية – من 1910م إلى 1924م – بشكل عام مع الوقت الذي قضاه في لندن. حيث ركز وايتهيد خلال هذه السنوات بشكل رئيسي – وإن لم يكن حصرياَ – على مسائل في فلسفة العلم وفلسفة التعليم. أما الفترة الرئيسية الثالثة فتتزامن بشكل عام مع الوقت الذي قضاه في هارفارد منذ عام 1924م فصاعداً، وخلال هذه الفترة عمل بشكل أساسي على مسائل في الميتافيزيقيا.

تخرج وايتهيد – الذي كان ابناً لقس أنجليكاني – من كامبريدج في عام 1884م، وانتُخب زميلاً لكلية ترينيتي في نفس العام. وكان زواجه من إيفلين وايد بعد ست سنوات زواجاً سعيداً إلى حد كبير، فقد أنجبا معاً بنتاً وثلاثة أولاد، توفي أحدهم – للأسف – عند ولادته.

وشغل وايتهيد بعد انتقاله إلى لندن منصب “رئيس الجمعية الأرسطية” في الفترة من 1922م إلى 1923م. وبعد انتقاله إلى جامعة هارفارد، انتُخب عضواً في الأكاديمية البريطانية في عام 1931م.

وكان انتقاله إلى كل من لندن وهارفارد يدفعه جزئياً اللوائح المؤسسية التي تقتضي التقاعد الإلزامي، على الرغم من استقالته من كامبريدج كانت -جزئياً- احتجاجاً على الطريقة التي اختارتها الجامعة لتأديب أندرو فورسيث، الذي كان صديقاً وزميلاً له تحولت علاقته مع امرأة متزوجة إلى ما يشبه الفضيحة المحلية.

وبصفته مدققاً لزمالة برتراند راسل ومشرفاً أكاديمياً على ويلارد فان أورمان كوين، أثر وايتهيد تأثيراً هائلاً على تطور فلسفة القرن العشرين. ويصدق هذا القول على الرغم من أن مذهبه الفلسفي الرئيسي – أن العالم يتكون من عمليات وأحداث مترابطة بشكل وثيق، وليس من أشياء أو أجسام مادية مستقلة غالباً – أصبح إلى حد كبير على النقيض من مذهب راسل في الذرية المنطقية (logical atomism).

ويمكن العثور على مزيد من المعلومات المفصلة عن حياة وايتهيد في السيرة الذاتية الشاملة التي تتكون من مجلدين “آيه. إن. وايتهيد: الرجل وأعماله” (1985م، 1990م) التي كتبها فيكتور لوي وجي. بي. شنيويند. كما يتضمن كتاب بول شيلب “فلسفة ألفريد نورث وايتهيد” (1941م؛ النسخة الثانية 1951م) مقالة قصيرة عن سيرته الذاتية، بالإضافة إلى تقديم لمحة نقدية شاملة لفكر وايتهيد وقائمة ببليوغرافية مفصلة لكتاباته.

تشمل المقدمات الأخرى المفيدة عن أعمال وايتهيد كتاب فيكتور لوي “فهم وايتهيد” (1962م)، وكتاب ناثانيل لورانس “تطور وايتهيد الفلسفي” (1956م)، وكتاب وولف مايس “فلسفة وايتهيد” (1959م)، وكتاب مايكل إيبرسون “الميكانيكا الكمية وفلسفة ألفريد نورث وايتهيد” (2004م).


نظرية المعرفة

يعرض الفيلسوف الغربي إ.م.بوشنسكي نظرية المعرفة عند وايتهيد1 ويقرر أن وايتهيد يقبل المذهب الموضوعي، وذلك من حيث أنه يرى أن العالم يحتوي فعلا وحقا، على أفعال المعرفة، ولكن ليس فقط على هذه الأفعال.

وهو يقدم ثلاثة أسباب لهذا الموقف:

1. تجربتا الإدراكية تظهر لنا أننا موجودون في عالم يمتد إلى ما هو أبعد منا.

2. والتاريخ يخبرنا بوجود ماض طويل يسبق وجودنا نحن.

3. والسلوك الإنساني يفترض وجود التعالي.

ومع كل هذا، فإن الفكر لم يصل إلى حسم سؤال: ما هو المذهب الصحيح: الواقعية أم المثالية؟

إلا أن وایتهد يعلن اختياره للواقعية في نهاية الأمر، ويرد على سائر الحجج المثالية ويرفضها، مطبقا في هذا نظريته في الإدراك، إن مبدأ «المباطنة» الذي يقول بأننا لا نعرف إلا ما هو فينا، أصبح مبدأ قد عفا عليه الزمن، لأنه يقوم على التصور المادي الخاص بانعزال الأشياء بعضها عن بعض.

فالحق، أن كل «حدث» يتعدى نفسه بفضل «الإدراك» . إننا نعرف «هنا الأشياء القائمة «هناك». ومن الطبيعي أن يكون هنالك تحريف وتشويه في المعرفة، وأن نكون واقعين تحت تأثير الظروف الذاتية، هذا طبيعي لأننا لا نعرف الحوادث بها الأخرى إلا بقدر ما هي جزء من ذواتنا نحن.

ويتابع الفيلسوف الغربي إ.م.بوشنسكي بيان مذهب وايتهيد في المعرفة بـإشارته إلى مذهبه في الاستقراء ونظريته في السببية، فيقول:

إن الاستقراء، من وجهة نظر فلسفة الكيان العضوي، يقوم في الانتقال من خصائص فردية إلى توصيف عام لمجتمع من الحادثات. إن الاستقراء ليس خطوة ذهنية عقلية، بل هو نحو من «التخمين».1

وهو هنا يقصد أن الاستقراء ليس شيئا إلا الانتقال من الجزئي إلى الكلي، وهذا الانتقال إنما هو بحكم الغالب؛ كما عبر بقوله "التخمين".

وفيما يخص السببية، فإن وایتهيد يؤكد على واقعة أننا حائزون على معرفة مباشرة مزدوجة، ألا وهما 2:

1. معرفة المعطيات الحسية ، وهي التي يسميها اصطلاحا المباشرة التصويرية.

2. ومعرفة السببية.

إن الوصول إلى تصور النتيجة يكمن من خلال الطريقتين (الحسية والسببية)، ولكن المذهب التقليدي التجريبي لا يعطي اهتماما حقيقيا في المعرفة إلا بالنوع الأول فقط الذي يقوم على الملاحظة المباشرة والتجربة، ولا يرى في قوانين البرهان العقلي والسببية إلا أنه نوع من التخمين وضرب من الحظ والاحتمال.

وهذا ما عبر عنه وايتهيد3: أننا ندرك الفاعلية السيبية إدراكا مباشرا ، وهي ليست أقل من بنية فوقية ذهنية، ولكنها تؤسس المعرفة عن طريق المباشرة التصويرية.

ومن هنا نعلم أن وايتهيد لم ينحي السببية جانبا في الوصول إلى المعرفة، ولكنه اعتبرها الخطوة الأولى أو الاحتمال أو الظن الذي لا قيمة له إلا إذا تحقق منه بالحس والطريقة التصويرية المباشرة (الملاحظة والتجربة).

لكن هل المعرفة الحسية أو حتى السببية ثابتة عند وايتهيد؟

يضيف زكي نجيب محمود عن هذا قائلا1 : إننا في العادة نتصور الثبات في أنفسنا حتى أن تصورنا التغيير الدائب في الاشياء التي ندركها ، لكن وايتهيد يجعل الداخل والخارج معا في تغير لاينقطع ، فلا ينفك ما حولنا يتغير، وكذلك ما تنفك الذات المدركة تتغير ، فإذا كانت الاشياء الخارجية لاتظل لحظتين متتابعتين على حالة واحدة ، فكذلك الذات المدركة لاتثبت على حالة أدراكيـة واحـدة لحظتـين متتابعتين كان مثل هرقليطس يذهب مذهب التغير في الاشياء .

وقد صور وايتهيد ذلك في العبارة المشهورة " أنك لاتعبر النهر الواحد مرتين"، ومعناها أنك حين تعبر النهر للمرة الثانية يكون نهرا جديدا آخر ، فليس الماء هو نفسه الماء الذي كان!

وجاء وايتهيد فوسـع مـن المبدأ نفسه بحيث شمل الذات أيضا ، حتى ليصح أن يقال عنها شبيهة بتلك فنقول "إنك لا تفكر الفكرة الواحدة مـرتين" أو "أنـك لاتمارس الخبرة الواحدة مرتين" ، لأنك في كل لحظة تتغير ذاتا بتغير موضوع أدراكك وهكذا يكون العالم – ذاتـا وموضـوعا – خلّاقا أبدا، جديدا أبدا ، لايدوم على حال واحدة لحظتين متتابعين!

إن أبستمولوجيا وايتهيد تنطوي على عناصر تجريبية وأخرى عقلية والدليل على ذلك أنه يصطنع معيارا تجريبيـا حـين يتحدث عن الكفاية وقابلية التطبيق ، في حين نراه ينهج نهجا عقليا حين يتحدث عن الاتساق المنطقي وعدم التناقض ، ولم يكن فـي وسع وايتهيد وهو العالم الرياضي أن يتناسى معيار الاتساق المنطقي وتبعا لذلك فقد ذهب فيلسوفنا الى أنه ليس بالامكان تصور أي موجود مجردا عن غيره من الموجودات الاخرى كما أنه لاسبيل الى فهم أي حدث طالما بقيت علاقته بغيره من الاحـداث غيـر محددة وفقا لبعض القواعد المنطقية.

ومع هذا فإنه أيضا يذهب إلى أن المعرفة تستلزم أيضا تبريرا تجريبيا بدليل أن المقولات لابد أن تكون قابلة للتطبيق ومكافئة في الوقت نفسه للواقع ، وهي تكون قابلة للتطبيق حينما يجيء وصفها للخبرات المترابطة.1


الخلاصة:

لو جئنا ونظرنا إلى المنهج الفلسفي عند وايتهيد بشكل عام نلمح عدة أشياء نلخصها كالآتي :

1. فيما يتصل بالمنهج يرى وايتهيد أن المنهج الفلسفي يتضمن تعميما يتجه من العيني الى الكلي .

وهذا التعميم يقوم على الوصف أكثر مما يقوم على الاستنباط وينبغي على بعض الفلاسفة أتخاذهم الاستنباط محكا للاختبار في البحث الفلسفي إذ يرى أن الاستنباط ليس الا وسيلة مساعدة للتحقق لا ينبغي أن تكون له الاولوية في المناهج الفلسفية .

2. والمنهج الذي يدعو اليه وايتهيد هو ما يـسميه بمـنهج "التعميم الوصفي" الذي يتخذ شكل وصف البنية ، فيضع مكان الوصف وصفا للعملية الديناميكية للحياة.

3. ومن خلال ما سبق ندرك إجابة السؤال المطروح في الإشكالية: ما هو أساس المعرفة عند وايتهيد؟ وهل هو عقلي بحت؟

بأن وايتهيد ينطلق من العقل كبداية للوصول إلى المعرفة، ولكنه لم يلبث بعيدا عن الاستعانة بالحس والتجربة؛ فالمعيار الابستمولوجي عنده هو على نوعين :

1. معيار عقلي هو الاحكام المنطقي وأتفاق الفكر مع نفسه

2. ومعيار تجريبي هو قابليـة التطبيق والموافقة .

رأينا في نظرية وايتهيد المعرفية:

1. قد كـان وايتهيد حريصا كل الحرص على أقامة كل فلسفته على دعامة تجريبية ، ولكنه لم يلبث وحيدا بالحس بعيدا عن السببية والعقل؛ فقرر أن لكل من الحس والعقل دوره الذي لا ينبغي أن يتجاوزه، ولكنه في نهاية الأمر أعلى من المعرفة الحسية المباشرة على المعرفة العقلية السببية حينما نراه يصف التفكير العقلي ذاته بأنه نوع من التخمين وضرب من الاحتمال!

2. المذهب الفلسفي ينبغي أن يكون محكما ومنطقيا ولا ينبغي تصور كيان _مع صرف النظر عن سائر الكيانات ، كما لا يمكن فهم كيان _ إذا لم تجدد علاقته بسائر الكيانات وفقا لقواعد منطقية ، لكن المعرفة تتطلب أيضا تبريرا تجريبيا أحيانا، وينبغي أن تكـون المقولات قابلة للتطبيق والموافقة ، وهي تكون قابلة للتطبيق إذا كانت تصف كل التجربة الخاصة بها بوصها تكـشف عـن نفـس التركيب وتكون موافقة إذا كانت تشتمل على كل التجربة الممكنة في رؤيتها التصورية ، وقد وجدنا "وايتهيد" يسعى جاهدا في بيان هذا وتطبيقه، ولهذا فإننا نكن له وافر التقدير.

****************************************
المصادر:
[1] (نظرية المعرفة عند مفكري الإسلام وفلاسفة الغرب المعاصرين، د.محمود زيدان - صــ7)

1 (نظرية المعرفة عند جون لوك، مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماستر في الفلسفة ، من إعداد الطالبة: سامية عثمان، صـــ3)

* (موسوعة ستانفورد للفلسفة / ترجمة: هاجر العبيد، صـ2،4،5 )

1 (الفلسفة المعاصرة في أوربا- إ.م.بوشنسكي، ترجمة عزت قرني، ط عالم المعرفة 1978 ، صــ300)

1 المصدر السابق نفسه. صـ300

2 نفسه. صــ300

3 نفسه.صـ301

1 (فلسفة الفرد نورث وايتهيد دراسة تحليلية ، رافد قاسم هاشم. صــ471.)

1 (فلسفة الفرد نورث وايتهيد دراسة تحليلية ، رافد قاسم هاشم. صــ473)


1 تعليقات

تعليق:

أحدث أقدم

نموذج الاتصال