فرقة الماتريدية الإسلامية


 

علم الكلام الإسلامي من العلوم الإسلامية التي اهتمت بالدفاع عن العقائد الدينية وإقامة الحجج على صحتها، وكانت "المَاتريدِيَّةُ" إحدى الفرق الكلامية التي دافعت عن الإسلام وعقائد المسلمين بفكرها النيّر القويم، وهذه الفرقة  منتسبة إلى إمامها ومؤسسها أبي منصور الماتريدي، الذي ينتهي نسبه إلى الصحابي أبي أيوب الأنصاري، وهي مدرسة إسلامية سنية، ظهرت في أوائل القرن الرابع الهجري في سمرقند من بلاد ما وراء النهر. دعت إلى مذهب أهل الحديث والسنة بتعديل يجمع بين الحديث والبرهان، حيث قامت على استخدام البراهين والدلائل العقلية والكلامية في محاجَّة خصومها لإثبات حقائق الدين والعقيدة الإسلامية.

ولكن الأسف يصيبنا عندما نعلم أن الإهمال كان من أسباب عدم انتشار المذهب الماتريدي قبل السبعينات مثل أقرانه من الأشعرية وأهل الحديث، وإن كان هذا لتقصير كبير في حق إمام كبير كالماتريدي وفرقة قوية كفرقته.

فــقد "تحدث ابن النديم عن شيخ السنة في مصر أبي جعفر الطحاوي بينما لم يشر إلى الماتريدي ، بالرغم من أنهما قد عاشا في عصر واحد. وأهمله البغدادي في كتابيه الفرق بين الفرق، وأصول الدين». كما أغفله ابن خلكان في «وفيات الأعيان» والصفدي في «الوافي بالوفيات» وتحدث ابن الأثير عن ماترید مواطن أبي منصور ولم يترجم إلى أفضل علمائها، واهتم ابن کثير بالكعبي المعتزلي ولم يتحدث عن معاصرة من أهل السنة ، ممن كرس جهدا لمناقشته والرد عليه كأبي منصور. وأطنب ابن العماد في حديثه عن الدولة السامانية ولكنه أهمل الماتريدي الذي يعد من أبرز مفكريها. وناقش ابن حزم الأشعري في الكسب، وعده جبریا واغفل الماتريدي وكذلك فعل ابن خلدون في الفصل الذي عقده في المقدمة لنشأة علم الكلام وتطوره . وحذا حذوهم السيوطي في «طبقات المفسرين» بالرغم من أن أبا منصور معدود من أكبر الذين برعوا في علم التفسير. كما أهملته كتب الكلام. ومرت كتب الأحناف عليه مرورا عابرا، وما ساهم في هذا الاغفال أيضا ضیاع کتب ترجمت لرجال ما وراء النهر، ككتاب القني في رجال سمرقند "(1)

ولأجل ما لهذه الجماعة _أعني الماتريدية_ من فضل متمثل في الدفاع عن الدين والمتدينين أحببت أن أقف في هذا البحث قليلًا عارضًا بعض آرائهم التي أثرت المكتبة الإسلامية والفكر الإسلامي، كما سأعرض نبذة عن اختلافهم مع بعض الفرق الإسلامية الأخرى، وحجتهم العقلية القوية.

اعتمدت الماتريدية في أسسها ونشأتها على المذهب الحنفي فقهًا وكلامًا، حتى كانت آراء أبو حنيفة هي الأصل الذي تفرعت منه آراء الماتريدي.

وقد طرحت الماتريدية أفكارًا ومعتقدات ميزتها عن غيرها من الفرق الاسلامية كان من أبرزها: "أنهم قالوا أن مصدر التلقي في الإلهيات والنبوات هو العقل، وأن المعرفة واجبة بالعقل قبل ورود السمع، وفسروا الإيمان بأنه عبارة عن الإقرار والتصديق، واعتبروا الذكورة شرطًا في النبوة، وقالوا بإمكان رؤية العبد لربه إلا أنهم جهلوا كيفيتها.

انتشرت  أفكار الماتريدية انتشارا كبيرا ما بين 700ـ1300هـ وكثر أتباعها فى بلاد الهند والصين، وبنجلاديش، وباكستان، وأفغانستان وتركيا، وفارس، وبلاد ما وراء النهر، والمغرب، ويعتبر الأزهر عقيدة الأشعرى والماتريدى هي التى تقوم عليها عقيدة الأزهر الشريف وفقه الأئمة الأربعة وتصوف الإمام الجنيد".(2)


مؤسس الماتريدية

هو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي، أختلف في تحديد مولده؛ والراجح أنه ولد في عهد المتوكل 232 – 247 هــ ، وتوفي عام 333هـ أي في الوقت الذي كان المعتزلة فيه ينالون غضب الشعب واستنكاره جزاء ما أنزلوا بالفقهاء والمحدثين في الثلث الأول من هذا القرن نفسه ودفن بسمرقند.(1)

 كان يلقب بإمام الهدى وإمام المتكلمين، ورئيس أهل السنة والإمام الزاهد، ورافع أعلام السنة والجماعة، وقالع أضاليل الفتنة والبدعة، وإمام المتكلمين ومصحح عقائد الدين. وكان من شيوخه الإمام محمد بن مقاتل الرازي، وأبو نصر العياضي، ونصير بن يحي البلخي، وأبو بكر الجوزجاني. ومن تلامذته أبو القاسم السمرقندي، وعلي البستغني، والإمام أبو محمد البزدوي.

يحتل الماتريدي منزلة كبيرة في تاريخ الفكر الإسلامي حيث أنه مؤسس لإحدى المدارس الكلامية التي ذاع وانتشر فكرها في العالم الإسلامي وهي المدرسة الماتريدية، التي أصبحت هي والأشعـرية تتقاسم العالم الإسلامي، وفيها يقول طاش كبرى زاده:

"إن رئيس أهل السنة والجماعة في علم الكلام رجلان، أحدهما حنفي والآخر شافعي، أما الحنفي فهو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي إمام الهدى، وأما الآخر الشافعي وهو شيخ السنة ورئيس الجماعة إمام المتكلمين أبو الحسن الأشعري البصري". (2)

ظهر مذهب الماتريدي في ظل الصراع الكلامي الذي نشأ في بغداد عاصمة الخلافة العباسية وفي ظل تشعب الآراء والمذاهب فيها، مما أدى إلى ولادة فرقة الماتريدية، بالإضافة لانتشار العقائد والمذاهب المعتمدة على المناهج العقلية والفكرية آنذاك، حيث ساعد على نشوء فكر الماتريدية الداعي للجمع بين الشرع والعقل وتوسيع دائرة التفكير والاستنتاج. 


((( سمات المنهج الماتريدي )))

اتسم هذا المنهج بالوسطية والجمع بين العقل والنقل؛ فقد اتخذت الماتريدية منهجًا وسطًا جمعوا فيه بين دلالتى العقل والنقل، وهذا المنهج يشبه منهج الأشعرى كثيرًا، ولكنه لا يضاهيه هو والمعتزلة ولا أهل الحديث.

سار الماتريدي على منهج وسط ؛ نستطيع أن نصفه بأنه منهج معتدل بين كلا من الأشاعرة والمعتزلة وأهل الحديث، وكان أقرب للأشاعرة من أهل الحديث، وأقرب للمعتزلة من الأشاعرة أحيانا كثيرة، كما سنرى في معرض بحثنا.

بل إن مفهومُ التحسين والتقبيح العقليين اختلف عند الماتريدية تمامًا عنه عند المعتزلة؛ فالعقلُ عند المعتزلة "إذا أدرك الحسنَ والقبحَ يوجب بنفسه على الله وعلى العباد مقتضاهما" .

 وأما عند الماتريدية "فالموجب لمقتضى الحسنِ والقبحِ اللذين يدركهما العقلُ من الفعل هو اللهُ تعالى، يوجبه على عباده، ولا يجب عليه شيء، والعقلُ مجردُ آلة يعرف بها ذلك الحكم، فيكون آلةً للبيان وسببًا عاديًا؛ لا مولدًا كما عند المعتزلة". (1)

وهذا يؤكد أصالةَ قولِ الماتريدية، وأنهم لم يتأثروا بالمعتزلة، وهنا ملمح فكري بارز. وهذا ما جعل الشيخ محمد أبو زهرة يقول: " والنتيجة لهذا القول أنه يأخذ محكم العقل فيها لا يخالف الشرع فإن خالف الشرع فلا بد من الخضوع لحكم الشرع "(2)

ويقول محمد أبو زهرة في كتابه "تاريخ المذاهب الإسلامية": عند الدراسة العميقة لآراء الماتريدي وآراء الأشعري في آخر ما انتهى إليه نجد ثمة فرقًا في التفكير وفيها انتهى إليه الإمامان، وأنه بلا شك كان كلاهما يحاول إثبات العقائد التي اشتمل عليها القران بالعقل والبراهين المنطقية، وأن كليهما كان يتقيد بعقائد القران، بيد أن أحدهما كان يعطي العقل سلطانًا أكثر مما يعطيه الآخر... لذلك نقرر أن منهاج الماتريدية للعقل سلطان كبير فيه، حتى يكاد الباحث يقرر أن الماتريدية في خط بين المعتزلة والأشاعرة.(1)

ويقول الدكتور عبد الفتاح المغربي عن رؤية الماتريدي للمعرفة:

"ولقد استطاع الماتريدي أن يقيم منهجا للمعرفة الدينية، يتفق مع سمات المنهج العلمي، فدعى إلى ضرورة البحث والنظر ومواصلة ذلك، وطلب البرهان والدليل، إذ هما سبيل الوصول إلى الحق، ورفض التقليد، ورفض الدعوى التي تقول أن الإلهام مصدر من مصادر المعرفة، ودعى إلى الاجتهاد، وقال بجواز التأويل في حدود معينة، ووضع ضوابط وقواعد له. وهذا يعني إقامة فکر دینی صحیح، يقوم على فهم واع للعقيدة دون تطرف أو مغالاة" (2) 


القضاء والقدر

 تؤمن الماتريدية بمراتب القدر الأربع، والتي لا يكون العبد مؤمن حتى يؤمن بها وهي:

1.  علم الله القديم وأنه علم أعمال العباد قبل أن يعملوها.

2.  كتابة ذلك في اللوح المحفوظ.

3.  مشيئة الله العامة وقدرته الشاملة.

4.  إيجاد الله لكل المخلوقات وأنه الخالق وكل ما سواه مخلوق.

ومسألة الاستطاعة أو القدرة من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الفرق الإسلامية، تبغًا للخلاف الواقع في القدر.

 فالذين قالوا بالجبر وهم الجهمية قالوا بنفي الاستطاعة لا مع الفعل ولا قبله وذلك لأن العبد لا اختيار له.

 والذين قالوا بنفي القدر وأن العبد خالق لفعله هم المعتزلة، وأثبتوا الاستطاعة قبل الفعل ونفوا أن تكون معه. والذين قالوا بالكسب وهم الأشاعرة قالوا بأن الاستطاعة تكون مع الفعل لا قبله.

أما جمهور الماتريدية فقد توسطوا في المسألة، فقالوا بإثبات الاستطاعة قبل الفعل ومعه، فقالوا بأن الاستطاعة تقع على نوعين الأول: سلامة الأسباب والآلات وهي تتقدم الفعل، الثاني: الاستطاعة التي يتهيأ بها الفعل وتكون مع الفعل.

أما مسألة التكليف بما لا يطاق فهي مسألة من المسائل الخلافية بين طوائف المسلمين، وذلك تبعًا للخلاف الواقع في الاستطاعة والتحسين والتقبيح، فالجهمية قالت بجواز تكليف مالا يطاق مطلقًا، والمعتزلة قالت بعدم جواز تكليف مالا يطاق، لأنه قبيح، والله منزه عن فعل القبيح فلا يجوز صدوره منه، والأشاعرة قالوا بجواز تكليف مالا يطاق به عقلًا، وإن لم يقع في الشرع، وقد أجازوه عقلًا بناء على نفيهم الحسن والقبح العقليين.

 أما الماتريدية فقد وافقوا المعتزلة، وقالوا بعدم جواز تكليف مالا يطاق لأنه فاسد عقلًا، ولعدم وجود القدرة التي هي مقتضى التكليف، قال الماتريدي: الأصل أن تكليف من منع عنه الطاقة فاسد في العقل.(1)


الإيمان

ذهب جمهور المحققين من الماتريدية إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، وذهب بعضهم إلى أنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان.

أما مسألة الاستثناء في الإيمان، أي تعليق الإيمان بالمشيئة. فالماتريدية لما قالوا بأن الإيمان هو التصديق وأنه لا يقبل الزيادة والنقصان، منعوا الاستثناء في الإيمان، وقالوا أن الاستثناء شك، ومن شك في تصديقه فهو كافر.

 قال الماتريدي: الأصل عندنا قطع القول بالإيمان وبالتسمي به بالإطلاق وترك الاستثناء فيه.(2)

كما أن الإسلام والإيمان شيء واحد، وأنه لا تغاير بينهما، ولا ينفك أحدهما عن الآخر، وإذا زال أحدهما زال الآخر، واستدلوا على قولهم بعدة أدلة.

 قال الماتريدي: أما القول عندنا في الإيمان والإسلام أنه واحد في أمر الدين في التحقيق بالمراد، وإن كان قد يختلفات في المعنى باللسان.(1)


إيمان المقلد

في حكم إيمان المقلد، كانت المسألة مسألة مختلف عليها، وكانت نتيجة لإيجاب المتكلمين النظر والاستدلال في كل مكلف. الماتريدية قالت بوجوب النظر والاستدلال، وذهب جمهورها إلى أن من آمن ولم ينظر ويستدل يكون إيمانه صحيحًا، ولكنه يأثم على تركه للنظر والاستدلال، وذهب بعضهم إلى أنه يكون مقلدًا ولا يأثم على تركه النظر والاستدلال.


مرتكب الكبيرة

ذهبت الماتريدية إلى أن مرتكب الكبيرة غير المستحل لها لا يخرج من الإيمان ولا يدحل الكفر، بل هو مؤمن كامل الإيمان، لعدم زوال التصديق، وهو مع إيمانه فاسق مستحق للوعيد لعدم طاعته لله واقترافه للمعاصي والآثام، وقالوا إذا مات مرتكب الكبيرة من غير توبة، فهو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وإن عذب يخرج من النار لا محالة.

قال أبو المعين النسفي: وأما أهل الحق فإنهم يقولون إن من اقترف كبيرة غير مستحل لها ولا مستخف بمن نهى عنها بل لغلبة شهوة أو حمية يرجو الله أن يغفر له ويخاف أن يعذبه عليها فهذا اسمه المؤمن وبقي على ما كان عليه من الإيمان ولم يزل عنه إيمانه ولم ينتقص ولا يخرج من الإيمان إلا من الباب الذي دخله وحكمه أنه لو مات من غير توبة فلله تعالى فيه المشيئة إن شاء عفا عنه بفضله وكرمه أو ببركة ما معه من الإيمان والحسنات أو بشفاعة بعض الأخيار وإن شاء عذبه بقدر ذنبه ثم عاقبة أمره الجنة لا محالة ولا يخلد في النار.(1)


الماتريدية والمعتزلة(*)

كثرت التأليفات والتصنيفات الماتريدية في الرد على المعتزلة والاختلاف معهم، ولعل أبرز الاختلافات بينهم نلخصها على الوجه التالي:

1.  مصدر التلقي: ذهبت المعتزلة إلى أن العقل هو مصدر التلقي في الاعتقاد مطلقًا، فقالوا بالقدرة المطلقة للعقل. أما الماتريدية فقد حاولوا أن يتوسطوا في منهجهم بين العقل والنقل، فجعلوا العقل هو مصدر التلقي فيما يتعلق بالإلهيات والنبوات، أما الأمور المتعلقة باليوم الآخر فجعلوا مصدر التلقي فيها السمع، ولذلك سموا هذه المسائل بالسمعيات.

2.  الأسماء: تثبت المعتزلة أسماء الله، ولكن هي عندهم أسماء مجردة لا تدل على شيء من الصفات، وقالوا عالم بلا علم وسميع بلا سمع وبصير بلا بصر. أما الماتريدية فقد أثبتوا الأسماء، وأثبتوا دلالتها على ما أثبتوه من الصفات إلا اسم الله، فإنه لا يدل على شيء من الصفات.

3.  الصفات: ذهبت المعتزلة إلى نفي جميع صفات الله، وقالوا أنه ليس لله صفات قائمة بذاته، وأن الصفة هي مجرد وصف الواصف، وأنها تعني نفي الضد، وليس لها معنى حقيقي ثبوتي، وأن الصفات ليست شيءًا سوى الذات. أما الماتريدية فقد قالوا بإثبات بعض الصفات، وأن لها معنى حقيقي ثبوتي وهي نمان صفات: العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والتكوين.

4.  التكوين: ذهبت المعتزلة إلى أن التكوين حادث وأنه عين الكون. أما الماتريدية فذهبوا إلى أن التكوين قديم أزلي، وعو غير المكون الحادث.

5.  القران: قالت المعتزلة أن القران كلام الله ووحيه، وهو مخلوق، وثالت الماتريدية أن القران كلام الله النفسي، وهو قديم أزلي غير مخلوق.

6.  أفعال العباد: قالت المعتزلة أن الله غير خالق لأفعال العباد، وأنها حداثة من جهة العباد، وأنهم هم الفاعلون والمحدثون لها، ولا تعلق لها بتاتًا بقدرة الله وإرادته. أما الماتريدية فقالوا إن الأفعال مخلوقة لله وأن الله خلقها كلها خيرًا كانت أو شرًا، وهي مع كونها لله عي كسب من العباد.

7.  الاستطاعة: قالت المعتزلة بأن الاستطاعة لا تكون إلا قبل الفعل ونفوا أن تكون معه. أما الماتريدية فقالوا بإثبات الاستطاعة قبل الفعل ومعه.

8.  الرؤية: نفت المعتزلة رؤية الله بالأبصار في الآخرة. قالت الماتريدية بإثباتها.

9.  الجنة والنار: قالت المعتزلة أن الجنة والنار غير محلوقتين ولا موجودتين الآن، وأن الله سوف ينشأها يوم القيامة. قالت الماتريدية أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وأن الله خلقهما قبل خلق أهليهما. 

10. اليوم الآخر: ذهبت المعتزلة إلى القول بنفي نعيم القبر وعذابه والميزان والصراط والحوض والشفاعة لأهل الكبائر، قالت الماتريدية بإثبات ذلك كله.

11. الكرامات: أنكرت المعتزلة ثبوت كرامات الأولياء. قالت الماتريدية أن كرامات الأولياء حق ثابت بالكتاب والسنة.

12. الإيمان: ذهبت المعتزلة إلى أن الإيمان قول واعتقاد وعمل. وذهبت الماتريدية إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وذهب بعضهم إلى أنه التصديق والإقرار.

13.  حكم مرتكب الكبيرة: قالت المعتزلة أن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل الكفر، وهو في منزلة بين منزلتيين، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فإنه يخلد في النار وأنه ليس من الحكمة العفو عنه. أما الماتريدية فقالت إن نرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان ولا يدخل الكفر، بل هو مؤمن كامل الإيمان، وهو من إيمانه فاسق مستحق للوعيد، وإذا مات من غير توبة يكون تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه.

14. إيمان المقلد: ذهبت المعتزلة إلى عدم صحى إيمان المقلد، وذهبت الماتريدية إلى صحته مع الإثم على ترك الاستدلال.

15.  زيادة الإيمان ونقصانه: ذهبت المعتزلة إلى القول بزيادة الإيمان ونقصانه، وذلك لأنهم أدخلوا الأعمال في مسنى الإيمان. أما الماتريدية فقد قالت بعدم زيادة الإيمان ونقصانه لنفيهم دخول الأعمال في مسمى الإيمان.


أما المسائل التي وافقت فيها الماتريدية المعتزلة فهي كالتالي:

1.  القول بوجوب معرفة الله تعالى بالعقل.

2.  الاستدلال على وجود الله بدليل الأعراض وحدوث الأجسام.

3.  الاستدلال على وحدانية الله بدليل التمانع.

4.  القول بعدم حجية خبر الآحاد في العقائد.

5.  نفي الصفات الخبرية والاختيارية.

6.  القول بعدم إمكان سماع كلام الله.

7.  القول بالحكمة والتعليل في أفعال الله.

8.  القول بالتحسين والتقبيح العقليين.

9.  عدم جواز التكليف بما لا يطاق.

10.        منع الاستثناء في الإيمان.

11.        القول بأن معنى الإيمان والإسلام واحد.


الماتريدية والأشاعرة(*)

قام الإمامان أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي مقاما واضحًا في الدفاع عن الدين، ومحاربة البدعة والآراء المنحرفة في فهم الدين كآراء المجسمة والمشبهة والمكفرة وغيرهم.

وقد وقع بين الأشاعرة والماتريدية بعض الاختلاف في مسائل الأصول، وهذه الاختلاف عند التدقيق نجد أن مرجعها القياس الخاطئ أو سوء التعبير، ولذلك يقول أبو اليسر البزدوى الماتريدى بعد بيان وجوه وسـطية الماتريديـة " إن مذهبنا هو المذهب الوسط ليس بيننا وبـين الأشـعرى وأصـحابه خـلاف إلا فى مسائل معدودة" (1)، ولا نزاع بين الشيخين وأتباعهما في الأصول (أي علم التوحيد) إلا في اثنتي عشرة مسألة؛ هم كالتالي:


1.  التكوين: قال الماتريدي التكوين صفة أزلية قائمة بذات الله كجميع صفاته، وهو غير المكوِّن، ويتعلق بالمكون من العالم وكل جزء منه بوقت وجوده، كما أن إرادة الله أزلية تتعلق بالمرادات بوقت وجودها، وكذا قدرته الأزلية مع مقدوراتها. قال الأشعري إنها صفة حادثة غير قائمة بذات الله، وهي من الصفات الفعلية عنده لا من الصفات الأزلية، والصفات الفعلية كلها حادثة كالتكوين والإيجاد، ويتعلق وجود العالم بخطاب كُن.

2.  كلام الله: قال الماتريدي كلام الله ليس بمسموع، وإنما المسموع الدَّال عليه. قال الأشعري كلام الله مسموع كما هو المشهور من حكاية موسى.

3.  الحكمة: قال الماتريدي صانع العالم موصوف بالحكمة سواء كانت الحكمة بمعنى العلم أو بمعنى الإحكام. قال الأشعري إن كانت الحكمة بمعنى العلم فهي صفة أزلية قائمة بذات الله، وإن كانت بمعنى الإحكام فهي صفة حادثة من قبيل التكوين، لا يوصف ذات الباري بها.

4.  الطاعة: قال الماتريدي إن الله يريد بجميع الكائنات جوهرًا أو عرضًا طاعة أو معصية، إلا أن الطاعة تقع بمشيئة الله وإرادته وقضائه ومحبته وأمره، وأن المعصية تقع بمشيئة الله وإرادته وقدره لا برضائه ومحبته وأمره. قال الأشعري إن رضا الله ومحبته شامل لجميع الكائنات كإرادته.

5.  التكليف: قال الماتريدي أن التكليف بما لا يطاق ليس بجائز، وتحميل ما لا يطاق جائز، قال الأشعري التكليف بما لا يطاق وتحميل ما لا يطاق جائز.

6.  الأحكام: قال الماتريدي بعض الأحكام المتعلقة بالتكليف معلوم بالعقل، لأن العقل آلة يدرك بها حسن بعض الأشياء وقبحها، وبها يدرك وجوب الإيمان وشكر المنعم، وإن المعرف والموجب هو الله لكن بواسطة العقل. قال الأشعري لا يجب شيء ولا يحرم إلا بالشرع لا بالعقل، وإن كان للعقل أن يدرك حسن بعض الأشياء وقبحها، وقال: جميع الأحكام المتعلقة بالتكليف متلقاة بالسمع.

7.  السعادة والشقاء: قال الماتريدي قد يسعد الشقي وقد يشقى السعيد. قال الأشعري لا اعتبار بالسعادة والشقاوة إلا عن الخاتمة والعاقبة.

8.  العفو: قال الماتريدي العفو عن الكفر ليس بجائز عقلًا. قال الأشعري يجوز عقلًا لا سمعًا.

9.  الخلود في الجنة والنار: قال الماتريدي أن خلود المؤمنين في النار وتخليد الكافرين في الجنة لا يجوز عقلًا ولا سمعًا. قال الأشعري يجوز عقلًا وأما سمعًا فلا يجوز.

10. الأسماء: قال بعض الماتردية أن الاسم والمسمى واحد. قال الأشعري بالتغاير بينهما وبين التسمية.

11.  الذكورة في النبوة: قال الماتريدي الذكورة شرط في النبوة حتى لا يجوز أن يكون الأنثى نبيًا، قال الأشعري ليست الذكورة شرطًا فيها، والأنوثة لا تُنافيها.

12.  فعل المخلوق: قال الماتريدي فعل العبد يسمى كسبًا لا خلقًا، وفعل الحق يسمى خلقًا لا كسبًا، والفعل يتناولهما. قال الأشعري الفعل عبارة عن الإيجاد حقيقة، وكسب العبد يسمى فعلًا بالمجاز.


الماتريدية والسلفية

أما إذا جئنا إلى "مسألة الصفات" التي هي فرق أصيل في منهج دراستها بين السلفية والماتريدية وغيرها من المتكلمين، نجد أن الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة قد اتفقوا على ما اختلفت عليه السلفية؛ ألا وهو "التأويل" عند تعذر المعنى في العقل، وهذا ما جعل الخلاف بين السلفية والماتريدية خلافا مريرا لطالما أهدر الوقت والفكر في أمور إن صح تعبيرنا عنها نقول أنها هزلية من قبل السلفية لا الماتريدية ولا الأشاعرة والمعتزلة. هذه قضية من القضايا التي شغلت كثير من علماء الأمة شغلًا جعلهم يُهملون وظيفتهم القائمة على التوعية والإصلاح في واقع الناس؛ حتى أصبحت بلاد المسلمين خرابًا لا تجد من يحنو عليها بنور الإصلاح والتعمير.

لقد أخذت هذه القضايا مجالًا عظيمًا مشوبًا بالنزاع والإقصاء، بينما هي أمور متفق على مقاصدها من كل فريق.

فالتنزيه غاية ومقصد كل فريق، لكن متعصبي كل فريق جعلوا الأمر صعبًا عسيرًا، وحولوا الغاية التي تدعو للحب والأُلفة بين المسلمين إلى نزاع طويل وجدال فقير، يسير خلف الانتصار للآراء الشخصية.

فهل تحتاج الأمة إلى مثل هذا التفكير، لا سيما في عصرنا الحاضر؟

إن إهمال الأعمال النافعة للناس حلَّ ببلادنا، حتى أصبح العمل الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمرًا غريبًا يتعجب منه أبناء الوطن الواحد.

إن العلم الذي يأخذ صورة النزاع مبتعدًا عن المقاصد العليا التي رسخها الإسلام، لهو عبث وضياع، والأمة ليست بحاجة لعلم كهذا يُفتتها ويُفقرها. إنما العلم النافع للناس ما كان سببًا في أُلفتهم واتحادهم، قَالَ رَسُولُ اللَّه، صلى الله عليه وسلم: «أَنا زَعِيمٌ ببَيتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَببيتٍ في وَسَطِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الكَذِبَ وإِن كَانَ مازِحًا، وَببيتٍ في أعلَى الجَنَّةِ لِمَن حَسُنَ خُلُقُهُ».

وقَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُم إِليَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجلسًا يَومَ القِيَامَةِ: أَحَاسِنَكُم أَخلاقًا، وإِنَّ أَبْغَضَكُم إِليَّ وَأَبْعَدَكُم مِنِّي يومَ الْقِيامةِ: الثَّرْثَارُونَ، والمُتَشَدِّقُونَ، وَالمُتَفَيْهِقُونَ».

فمتى سينهض الفكر من عثرته ويأخذ بيد الأمة نحو الرُقيّ والازدهار؟!


إننا نأمل خيرًا في مستقبل أفضل برحمة الله ومنه!


رأينا في فرقة الماتريدية

لا شك أن لكل فرقة وطائفة جوانب من الحق وأخرى من الخطأ، وهذا هو طبيعة الاختلاف والاجتهاد الذي حث عليه الإسلام، وقد تبيّن لنا بعد دراسة عن الماتريدية أنها من الفرق المعتدلة التي خدمت الفكر الإسلامي أيما خدمة، وأعطت كنوزًا من فهما الصائب إلى طالبي الحق ومحبي المعرفة، حتى هدى الله بها الحيارى والملحدين، ولا ندعي لها العصمة في رؤيتها وأفكارها؛ هذا -لعمري- حق لم يعطوه هم لأنفسهم، فضلًا عن أعطيهم أنا إياه، ولكنا نرى جمال فكرهم وقوة بيانهم يشع نورًا ويسطع ضياءًا حتى لا نكاد نرى هفواتهم.


الخلاصة :

تعرضت في بحثي هذا إلى عدة نقاط مهمة بشأن فرقة "الماتريدية" يمكنني أن ألخصها على الوجه التالي:
أولا. وضعت مقدمة ذكرت فيها علم الكلام وكيف أن الماتريدية طائفة من طوائف علماء علم الكلام، وكيف أُهملت تصنيفاتها عبر السنوات السابقة، ثم ذكرت بعض مميزاتها عن أقرانها من الفرق الأخرى، وفي أي البلاد كان انتشارها أسرع وأوسع.
ثانيا. تحدثت بإيجاز عن مؤسس الماتريدية أبي منصور ، وذكرت بعض مناقبه التي سطرها العلماء.
ثالثا. تحدثت عن سمات المنهج الماتريدي العامة، وبينت أنه كان منهجا وسطا بين الأشعرية والمعتزلة وأهل الحديث، وذكرت بعض المواضيع العقدية التي كان للماتريدي رأي وجيه فيها كالقضاء والقدر والإيمان ومرتكب الكبيرة.
رابعا. ذكرت الاختلافات التي بين الماتريدية والمعتزلة.
خامسا. ذكرت الاختلافات التي بين الماتريدية والأشعرية.
سادسا. ذكرت الاختلافات التي بين الماتريدية والسلفية.
سابعا. أبديت رأيي الخاص فرقة الماتريدية، وكان رأيًا إيجابيًا تجاهها.

 ******************

المراجع

1.   الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة،  وليد الزبيري وآخرون.

2.   الماتردية دراسةً وتقويمًا، أحمد بن عوض الله بن داخل اللهيبي الحربي.

3.   أبو منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية، الدكتور عبد الفتاح المغربي.

4.  الفرق الإسلامية، د. أمين نجا.

5.  نشأة الآراء والمذاهب والفرق الكلامية، يحي هاشم فرغل.

6. تاريخ المذاهب الإسلامية، الشيخ محمد أبو زهرة.

7. الفرق بين الفرق، عبد القاهر البغدادي.

8. سد الثغور بسيرة علم الهدى أبي منصور، أحمد الدمنهوري.

9.  الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية، لابو عذبة.

10.  السيفُ المشهور في شرحِ عقيدةِ أبي منصور ، للإمام العلامة الفقيه قاضي القضاة تاج الدين أبي نصر عبدِ الوهّاب بن الإمام شيخ الإسلام تقي الدين علي بن عبد الكافي السُّبكيّ.

11.  أبو منصورٍ الماتريديُّ -رضي الله عنه-  حياتهُ وآراؤهُ العقَديّة ] للأستاذ الدكتور بلقاسم الغالي.

12.  كتاب التوحيد للإمام العلامة المتكلم النظار الفقيه الشيخ أبي منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي الأنصاري الحنفي.

13.  الفرق والمذاهب الإسلامية منذ البدايات، لسعد رستم.

14.  مسائلُ الإختلافِ بين الأشاعرةِ  والماتريدية ، لمفتي الخلافة العثمانية العَلِيّة في عصره الإمام شيخ الإسلام شمس الدّين أحمد بن سليمان المعروف بابن كمال باشا الحنفي الماتريدي.

15.  مفتاح السعادة ومصباح السيادة لأحمد بن مصطفى طاش كبري زاده.

16.  أصول الدين للبزدوي.

______________________

الهوامش

(1) أبو منصورٍ الماتريديُّ -رضي الله عنه-  حياتهُ وآراؤهُ العقَديّة  للأستاذ الدكتور بلقاسم الغالي صــ12.

(2) مسائلُ الإختلافِ بين الأشاعرةِ والماتريدية ، لمفتي الخلافة العثمانية العَلِيّة في عصره الإمام شيخ الإسلام شمس الدّين أحمد بن سليمان المعروف بابن كمال باشا الحنفي الماتريدي.

(1) تاريخ المذاهب الإسلامية، الشيخ محمد أبو زهرة.

(2) تأويلات أهل السنة - تفسير الماتريدي ج1، مقدمة المحقق الدكتور مجدي باسلوم صــ92 .

(1) كتاب التوحيد ، للإمام أبي منصور الماتريدي ، تحقيق عاصم ابراهيم الكيالي صــ6 إلى 11.

(2) تاريخ المذاهب الإسلامية.

(1) تاريخ المذاهب الإسلامية، الشيخ محمد أبو زهرة.

(2) أبو منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية، الدكتور عبد الفتاح المغربي صـــ68 .

(1) السيفُ المشهور في شرحِ عقيدةِ أبي منصور  -الماتريدي-  للإمام أبي نصر عبدِ الوهّاب بن الإمام شيخ الإسلام تقي الدين علي بن عبد الكافي السُّبكيّ.

(2) أنظر الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية – الإمام أبوعذبة .

(1) الفرق والمذاهب الإسلامية منذ البدايات، سعد رستم صـــ136 وما بعدها.

(1) كتاب التوحيد أبي منصور الماتريدي تحقيق محمد العزازي صـــ341.

(*) أنظر: أبو منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية، الدكتور عبد الفتاح المغربي صــ 415 إلى 421 . السيف المشهور في شرحج عقيدة أبي منصور تأليف تاج الدين السبكي. أبو منصور الماتريدي لبلقاسم الغالي. كتاب التوحيد للإمام أبي منصور الماتريدي تحقيق عاصم الكيالي.

(*) أنظر: الفرق والمذاهب الإسلامية منذ البدايات، سعد رستم صـــ136 وما بعدها. مسائلُ الإختلافِ بين الأشاعرةِ والماتريدية ، لشيخ الإسلام شمس الدّين أحمد بن سليمان المعروف بابن كمال باشا الحنفي الماتريدي صــ 20 إلى 77 . أبو منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية، الدكتور عبد الفتاح المغربي صــ 401 إلى 414 .

(1) أصول الدين للبزدوي صــ250


إرسال تعليق

تعليق:

أحدث أقدم

نموذج الاتصال