رسالة طب القلوب لحضرة قطب زمانه الشيخ محمد علاء الدين الحسيني النعيمي النقشبندي قدس سره - كتبها سنة 1341هجرية .

 





الحمد لله الملك العليم الذي يحيي العظام وهي رميم خلق السماوات والأقاليم ومن عليها في الدارين بالهداية والإيمان وانعام أنواع نعمة النعيم وفضلنا على كثير من خلقه وبين لنا طريق الوصول إلى معرفته بفضله العميم وجعلنا من امة سيدنا ومولانا وشفيعنا محمد الرؤوف الرحيم صاحب الخلق العظيم الذي هو المعروف بالرحمة العليا والموصوف بالوصف الكريم والمركز لظهور رحمة الحق للخلود الجديد والقديم . وصلى الله العلي الحكيم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .


اما بعد فيا أيها الإخوان ويا أهل الدين والإيمان ارفعوا رؤوسكم عن مخدة الغفلة التي حصلت بصحبة الجهلة واعملوا لآخرتكم في يوم المهلة لقد خلق الله لكم الأعين فلم لا تبصرون ؟ والسمع فلم لا تسمعون ؟ والفؤاد فلم لا تفقهون ؟ وجعل لكم الموت فلم لا تتذكرون ؟ كل نفس ذائقة الموت وان لأهل القصور والفتور والفجور أشد العذاب فلم لا تشعرون ( وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ) فإنكم على نار جهنم لا تصبرون ( فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) قال سيدنا ومولانا وحبيب ربنا محمد المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم( الدين النصيحة ) فقال بعض أصحابه لمن . قال صلى الله عليه وسلم لله عز وجل ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم ، بمفاده يوصي وينبه ويعلمكم الراجي الفقير إلى رحمة ربه القدير المتين محمد علاء الدين النصائح التي تجدون بها الفلاح وتصلون بها إلى النجاح وتكونون بها يوم الفزع الأكبر من الآمنين .

 جعلني الله وإياكم من العالمين العاملين بمنه وفضله ورحمته وهو ارحم الراحمين آمين . قال الله تعالى ( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ) . ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) . ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) . وقال سبحانه في حديث قدسي ( من طلبني وجد وجدني ) وكذا أمرنا بالذكر وبالتقوى ظاهراً وباطناً في كل وقت وحين بقوله تعالى شأنه ( وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) ( واذكر ربك اذا نسيت ) . ونهانا عن الغفلة وإتباع أهل الهوى بقوله جل شأنه ( وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) واوجب علينا إصلاح البال بقول حبيب حضرة المتعال صلى الله عليه وسلم في الحال والاستقبال ، ( ألا وان في الجسد مضغة ان صلحت صلح الجسد كله وان فسدت فسد الجسد كله الا وهي القلب ) هدانا الله ووفقنا لذكره بالقلب إلى طريق إصلاحه ورفع حجاب الغفلة عنه ومقام كمال الإحسان وهو ( ان تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك ) .

 واعلموا ان حصول اليقين والاطمئنان بذكره ( أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) اما الآن فقد امتلأت قلوبنا من العيوب واحتجب إيماننا بحجب ظلمة الغفلة ونسيان ذكر الله العالم بالغيوب وغلبت على قلوبنا القسوة والبلية واللغوب وقد طردنا عن معرفته تعالى شأنه ، طغيان النفس والرذائل واشتغلنا بهوانا والذنوب ، حتى فسدت بها أجسادنا وهلكنا في تيه الضلال فلا نفرق بين الحرام والحلال ، وحرمنا من أنوار رحمة الرحمان المنان بواسطة هجومنا على الخطيئات والعصيان وبه قست قلوبنا ( فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ) واعلموا إخوتي ان جنون حب الدنيا وصرع الجهل وكابوس الكسل وصداع الحسد وشقيقة البخل وقروح سوداء طول الأمل ووسواس حب الرياسة وذكام الخيانة وقذر العيوب ورمد غبار الذنوب ونتن انف الحوب وقلاع ترك الحمد وخناق كلبي الفاظ الردة وخرس الطغيان وخنازير ترك الشكر وخناق البغض وذات صدر العداوة وذات جنب االاخلاق الرديئة وفواق تعاقب النظر وكبد الحسد وطحال التكبر ووجع فؤاد الحقد ونتن سرة ترك الدعاء وذات الرئة وترك الفكر وخفقان ترك الذكر وسل ترك الواجبات ويرقان ترك الطاعات وسلس العجب واستسقاء الغفلة عن شكر الإيمان والصبر عند البلاء وحصاة اللهو واتباع هوى النفس وبواسير اللغو وسجح ترك الحج ونواصير الظلم وسدة سوء الخلق ومنعقد رياح الطمع وغليان دم ذم الناس وسوداء الشهوات القبيحة ومرارة صفراء الكذب وبلغم النميمة وجروح نقض العهود وآكلة كتمان الحق وجرب اتباع الطبيعة البشرية وحكة الشهوات الشنيعة وجذام الربا ووباء الرياء وطاعون ترك الصوم وقوباء اللوم وجمرة قطع الأرحام وحصبة ترك إطعام الطعام وان جدري ترك الزكاة ودمامل ترك الصدقات وبرص الحقد وكلف العلائق ونقرس ترك الحسنات وقولنج ترك رفع الرذائل وإصلاحها وامتلاء الحرص وحمى ربع الغفلة وحمى غب البهتان وحمى دق الخطيئات الجزئيات والكليات ، بليات وأمراض عامة مسلطة عليكم حاصلة في قلوبكم صغاراً وكباراً فجعلت لطائف عالم الأمر بها اسارى (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) وبهذه العلل قلوبكم قُتلت وألقت حب الله وتخلت وعن نور الهداية كورت فبها القلوب تموت كما تموت الوجود وبها تُحرمون من أنوار الإيمان والصدق ورحمة الحق المعبود .


يا إخواني (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) واعلموا ان الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا وتوبوا إلى الله توبة نصوحا وعالجوا الأمراض المذكورة بلا قصور بدوائها عند الحكماء الربانيين والعرفاء الرحمانية وهم العارفون المرشدون وواظبوا على التداوي عندهم بمعجونها الذي أعلمكم ، لكي لا تكونوا من الخاسرين الغافلين الباغين ولا من الآيسين الغابرين ولا من الفاتنين الجاهلين ولا من المستدرجين الذين قال الله تعالى في حقهم (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) وهذا معجون الحكماء الربانيين المذكور الذي جرب من غير شك وريب والذي خلا من كل نقص وعيب وبه نجا جميع عباد الله المخلصين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وبدوامهم على استعماله خلصوا نجيا وكان كل تقيا ، وهم العارفون الواصلون الكاملون ، وهو من الأسرار لتكون محرومة منه الأغيار .


يا من تريد ان تقبل نصيحتي فتكون من الأبرار خذ بعد الاستغفار بالتكرار من لب حب الإنابة ومن ورق الندامة وزهرة الانفعال وعرق التوبة وصمغ الزهد وعلك التقوى وجوهر الذكر وملح معدن الطاعة وسنا العزلة وهليلج التهليل وآملة السهر وطباشير الخوف وصبر الخشوع وسورنجان الخضوع وسكر التواضع ولوز السلامة وقافلة النافلة وكافور الذل وحلتيت قلة الكلام وزنجبيل البكاء وفلفل السخاء وفرفيون الرضا وزعفران قلة المنام وسنبل طيب الصلاة ودار الصيني ترك الشهوات وقرنفل الجد وحنظل الطلب وشادنج ترك الطبيعة البشرية وكاكنج الدوام وحب نيل الوداد وعطر محبة الرسول الخاتم الأكرم ، أجزاء متساوية غير قليلة خالصة من قشر الوجود واجعلها في هاون الصدق ودقها بمطرقة الخجلة ثم انخلها بمنخل الشريعة ، اترك منها كدورة الأغيار بالتكرار ، ثم خذ من عسل التوكل ودبس الورع ورب الصبر وعرق ورد القناعة وماء زلال الشكر وشربة الحمد ثم اجعلها في زجاجة القلب واعجن هذا المعجون فيها بأنملة المحبة واسترها بمنديل الانكسار وادفنها في شعير التفويض ثم اجعل الأدوية المذكورة في جو الصدر أربعين صباحا حتى يمتزج ثم طينها بطين الاستقامة ويبسه بشمس حسن الظن والخلق واجعلها فوق كورة الرجاء وأوقد تحتها نار من حطب الشوق والوداد حتى يطبخ طبخاً جيداً ثم أقطر عليه دهن بلسان الحب وذر عليه من غبار السعي وشنجرف معدن الإحسان وسليخة الوفاء بالوعد وثمر نبات التوكل وفودنج الإرادة وبخر وجودك بعود غبطة الصالحين الراغبين ثم القه تحت يد الطبيب الحاذق الشيخ الكامل العارف الواصل كالميت بين يدي الغاسل حتى يحصنه بلين الحماية بتأثير تلك المغلظات فيبعده عن قفص هوى النفس ويحفظه من خرؤ إلقاء الشياطين ويمنع عنه حر صيف الطبيعة البشرية ويعطيك من ذلك المعجون بالحكمة البالغة كل يوم وليلة وساعة مقدارا لا يؤذيك بل يكفيك .


واجتنب النظر إلى الأنام واترك بصل اليأس وبيضة الرياء ولحم الاستراحة وعدس حب الخلق والبس ظاهرك لباس التقوى مع الدوام على صحبة المرشد الكامل الأرشد المقرب إلى الله الواحد الأحد ، إلى ان ترى نفسك راضية مرضية طاهرة من عللها وعيوبها الظاهرة والخفية خالية عن الأهواء الردية فإذا أتممت تزكيتها وقطعت بهذا التدبير طريق إلقائها على قلبك يحصل له الصفاء ويندفع عنه البلاء وينكشف عنه الحجاب والغطاء وتظهر فيه أنوار الإيمان على الولاء ثم يُعرَج به في محبة الله إلى أعلى السماء فتسمع من الغيب بلا ريب بشارة ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ) فإذا سمعت النداء نجوت من الجفاء فترى حينئذ القلب والسمع والبصر كلها مستغرقة في نور رحمة الله الملك الأكبر ولا يزال حبك يزداد إلى ان يحبك الله ويذكركم كما قال جل شأنه ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) ويكون في شأنك ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) فإذا احبك خلصت مما كنت فيه واستمسكت بالعروة الوثقى وعند ذلك يكون الله سمعك الذي تسمع به وبصرك الذي تبصر به ويدك الذي تبطش بها ورجلك التي تمشي بها في الحياة وعند الممات وتكون سالماً عن الزلل صحيحاً من العلل وبعد دفع العلل توصلك أنوار الهداية إلى مقام أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ويفتح لك باب القبول وترقى درجات الرقاء والوصول ، فترى مقاماً خارجاً عن درك العقول وتلقى في بسيط محيط بحر العرفان خاليا عن تخيلات النفس والشيطان وتسبح تارة في لجة صفات الجلال والكمال حتى يدفع عنك جميع المردات والآمال وتارة تغرق في طوفان المحبة والجمال . لتنسى غير الملك المتعال وتارة تحرقك نار العشق لتنجيك من حب الخلق حتى يكون ساريا في ذاتك وصفاتك عشق أزلي ونور الهي ويظهر بمنه فيك وعلم لدني ثم بفضله يعشقك فإذا عشقك يقتلك فإذا قتلك فعليه ديتك يوم القيامة .


يا إخواني هذا كله بيان وتعليم لكم حتى تعلموا لماذا خلقتم وبماذا أمرتُم والى ماذا دُعيتم وتعرفوا قصوركم ونسيانكم وعللكم والزلل وهو بقدرته خلقنا ، وأما خلق النفس والشيطان للمطيعين الطالبين فمن جزيل فضله وإحسانه ليقطع طريق القرب والوصل بمخالفتهما وترفع حجاب البعد عنا بمباينتهما وترك ما يريدان منا ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) طوبى للخائفين الذين يخافون مقام ربهم ( فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ) ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ) واتركوا سبيل الغفلة والجهلة واخلصوا نياتكم وظواهركم وبواطنكم عن حب ما في الكون في هذا اليوم المهلة (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ) . ( وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ) فمن عمل بما اشرنا إليه من أعمال البر والخير وترك ما نهى الله عنه نازل به منه جل جلاله فضله الأتم ووصل به إليه تعالى شأنه وإذاً يعرف الله كما يعرف نفسه ويشهد الله شهوداً يقيناً وينوره الله بنور ذاته وصفاته الكاملة فيشتمل ضوءه على وجوده وقلبه ووجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه واما من ترك إصلاح القلب ونسى وعيد حضرة الرب واتبع الهوى بالتعب يقال في حقه بلا شك ولا ريب ( الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ) أعاذنا الله بكرمه ومنه وإحسانه مما أوعده للغافلين وأعدائه الجاحدين وجعلني الله وإياكم من المتقين الصالحين والعاملين العارفين ورزقني الله وإياكم رحمته وفضله ولقاء يوم الدين ...

 وصلِّ اللهم على سيدنا ومولانا وشفيعنا محمد صاحب المقامات العلية والعلوم اللدنية . لسان الحضرة الأقدسية أمين الأسرار الإلهية مجلي الذات ومظهر الأسماء والصفات علة السجود لآدم سر حياة العالم روح الأرواح الساري في جميع الأشباح الذي أقمت بخدمته مقرب الأملاك وجعلته قطبا تدور عليه الأفلاك الدرة الفاخرة والرحمة السابقة الهادي للخلق من الحق إلى الحق ، صلاة تهدينا بها إلى طريق الحق وتنجينا بها من شر جميع الخلق وتغفر لنا بها ما كسبنا وتصرف بها عنا ما علينا وتيسر لنا بها ما له خلقنا وتعيننا بها على ما أمرتنا وتكشف بها عن قلوبنا ظلمة سوء أفعالنا وتوصلنا بها إلى مقام الإحسان الجامع لإسرار ( اعبد ربك كأنك تراه ) حتى نشاهد الحسن الذاتي الساري في جميع جزئيات العالم وكليته فتنجذب به أرواحنا وأجسامنا إلى مغناطيس الجمال الإلهي فنذوب فيه ونغفل عن كل شيء سواء من جميع الوجوه ، وسلم عليه وعلى آله سلاماً تحفظنا به من غضبك وقهرك وسلامتنا من ذلك بإكثار السلام عليه صلى الله عليه وسلم ، وتيسر لنا به الوصول إلى معرفتك يا من هو هو يا ارحم الراحمين وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين انتهى


إرسال تعليق

تعليق:

أحدث أقدم

نموذج الاتصال