حماية القاضي مكفولة دينًا وقانونًا


الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، أول العابدين، وآخر النبيين، وسيد الخلق أجمعين وصاحب الشفاعة، والكوثر، والمقام المحمود، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين.

وبعد؛ فقد اهتمت الأنظمة القضائية المختلفة بوضع ضمانات تحقق استقلال القاضي وتضمن حيدته في اتخاذ القرار.

وقد اهتم نظام القضاء المصري بتقرير هذه الضمانات التي تكفُل أن يكون القاضي آمنًا في حاضره مطمئنًا على مستقبله، وتجعله بمنحى من بطش ذوي الأيدي القوية من الخصوم أو غيرهم، ولذلك وضع المقنن ضمانات تحمي القاضي من الحكومة والخصوم ومن نفسه أيضًا.

وهذه الضمانات لا يقصد بها مصلحة القضاة أنفسهم بقدر ما يقصد بها مصلحة المتقاضين.

ضمانات حماية القاضي من الحكومة
لقد وضع المقنن المصري ضمانات لحماية القاضي من تدخل الحكومة والتأثير فيه، وهذه الضمانات هي:

1- عدم القابلية للعزل:

ويقصد بذلك عدم جواز عزل القاضي، أو وقفه عن العمل، أو إحالته إلى المعاش إلا برضاه وفي الحدود التي ينص عليها القانون.

ولا يعني عدم القابلية للعزل أن القاضي يظل قاضيًا طوال حياته؛ بل إنه يخضع للإحالة للمعاش إذا بلغ السبعين عامًا، فـ«لا يجوز أن يبقى في وظيفة أو يعين فيها من جاوز عمره سبعين سنة ميلادية».

وكذلك تجوز إحالته إلى المعاش بسبب مرضه الذي يمنعه من تداول عمله بشكل جيد. وتجوز إحالته أو نقله لوظيفة أخرى إذا ظهر في أي وقت أنه فقد أسباب الصلاحية لولاية القضاء لغير الأسباب الصحية.

2- وضع قواعد خاصة لشئون القضاة:

ومن ذلك:

– راتب القاضي: لقد حرص المقنن على رعاية القاضي، فقرر له راتبًا متميزًا لكي لا يتطلع إلى ما في أيدي الخصوم أو غيرهم مما يكون له خطر عظيم على القضاء.

– ترقية القاضي: وتتم عن طريق السلطة التنفيذية. وفي هذا الشأن أوردت المادة 49 من قانون السلطة القضائية الأحكام الخاصة بترقية القضاة، وتتم الترقية بقرار من رئيس الجمهورية وبشرط موافقة مجلس القضاء الأعلى.

– نقل القاضي أو ندبه أو إعارته: فقد ضبط المقنن أسباب نقل القاضي من مكان لآخر، وقد وردت ضوابط النقل والندب والإعارة في قانون السلطة القضائية، ولذلك نصت المادة 52 على أنه «لا يجوز نقل القضاة أو ندبهم أو إعارتهم إلا في الأحوال وبالكيفية المبينة بهذا القانون». ثم فصلت المواد 53 وما بعدها قواعد النقل والندب والإعارة.

– تأديب القاضي: القاضي يخضع كغيره من العاملين بالدولة للمساءلة عن خطئه، ولكن نظرًا لمكانة القاضي وأهمية وظيفته فقد أحاطه المقنن بمجموعة من الضمانات وهي: أن التأديب من اختصاص مجلس تأديب يشكل من سبعة أشخاص من كبار القضاة. وتنقضي الدعوى التأديبية باستقالة القاضي أو إحالته إلى المعاش. كما تقام الدعوى التأديبية سرًّا.

– اتهام القاضي ومحاكمته جنائيًّا: إذا وقع في الخطأ، لكن في حالات غير التلبس لا يجوز القبض عليه أو حبسه إلا بعد الحصول على إذن من اللجنة المنبثقة عن المجلس الأعلى للهيئات القضائية، ولا يجوز إجراء هذا إلا بإذن هذه اللجنة. ويجري حبس القضاة وتنفيذ العقوبة بحقهم في أماكن مستقلة عن الأماكن المخصصة لحبس السجناء الآخرين.

ضمانات حماية القاضي من الخصوم

لا يكفي أن يضع المقنن المصري ضمانات لحماية القاضي من تدخل الحكومة والتأثير فيه، ولذلك فقد وضع ضمانات لحماية القاضي من الخصوم .

وتعد مخاصمة القاضي دعوى تعويض. وعلى المدعي أن يقدم إثباتات دعواه فإذا رفضت المحكمة جواز المخاصمة فإنها تحكم على الطالب للدعوى بغرامة لا تقل عن 400 جنيه ولا تزيد على 4 آلاف جنيه وبمصادرة الكفالة مع التعويضات إن كان لها وج .

وإذا حكمت المحكمة بصحة المخاصمة فإنها تحكم على القاضي بالتعويضات وببطلان تصرفه.

ولا يجوز الطعن في الحكم الصادر في دعوى المخاصمة إلا عن طريق النقض المادة 500 مرافعات، ومن ثم إذا كان صادرًا من محكمة النقض فلا يجوز الطعن فيه بأي طريق.

أسباب دعوى المخاصمة


حدد المشرع حالات مخاصمة القاضي علي سبيل الحصر فى المادة 494 من قانون المرافعات.

أـ إذا وقع من القاضي في عمله غش أو تدليس أو غدر:

عندما يحدث من القاضي خطأ مهني جسيم، سواء في مرحلة التحقيق أو المحاكمة و الحكم، أو قاصدًا إما إيثار أحد الخصوم، وإما الانتقام من خصم معين، وإما تحقيق مصلحة شخصية للقاضي بأى صورة من الصور أثناء أي إجراء في مراحل الدعوى.

ولكن يختلف الخطأ المهني الجسيم عن الغش والتدليس والغدر بأنه لا يشترط فيه سوء النية مثل تسبب القاضي بضياع مستندات مهمة في الدعوى، أو جهل فاضح لمبادئ أساسية في القانون، أو وقائع ثابتة بملف الدعوى، أو إغفال القاضي تسبيب الحكم.

هذا كله لا يدخل في نطاق الخطأ الجسيم إذا كان خطأ دون إهمال؛ فاجتهاد القاضي لا تأباه أحكام القانون، وسبيل تدارك الخطأ في هذه الحالة هو الطعن في الحكم بطرق الطعن المقررة قانونًا.

على أن استخلاص ما يعد خطأ جسيمًا أم غير جسيم يخضع لرقابة محكمة النقض.

بـ إنكار العدالة

ويقصد بهذه الحالة، امتناع القاضي عن الإجابة على عريضة قدمت له أو عن الفصل في قضية صالحة للحكم فيها، ما لم يعد تأجيل الفصل في الدعوى امتناعًا طالما هذا التأجيل له ما يبرره.

ولإثبات امتناع القاضي عن الفصل في الدعوى يتعين إعذار القاضي مرتين على يد محضر، يفصل بينهما ميعاد أربع وعشرين ساعة، بالنسبة للأوامر على عرائض، وثلاثة أيام بالنسبة للدعاوى الجزئية والمستعجلة والتجارية، وثمانية أيام بالنسبة للدعاوى الأخرى، ولا يعد القاضي منكرًا للعدالة إلا بعد انقضاء ثمانية أيام من تاريخ آخر عذر دون أن يفصل في الدعوى.

ج- الأحوال الأخرى التي ينص عليها القانون صراحة على مسئولية القاضي، والحكم عليه بالتعويض.

وذلك مثال ما نصت عليه المادة 175 مرافعات من أنه يجب إيداع مسودة الحكم المشتملة على أسبابه موقع من الرئيس ومن القضاة عند النطق بالحكم، وإلا كان الحكم باطلاً، مع إلزام المتسبب في البطلان ملزمًا بالتعويضات.

ضمان حماية القاضي من الخصوم في النظام القضائي الإسلامي
في الإسلام نجد قيمة العدل عالية متألقة تتصدر كل القيم الثوابت التي يدعو إليها الدين.. فهو القصد الأول للشريعة، وكل السبل التي تكفل تحقيقه هي سبل إسلامية شرعية حتى لو لم ينص عليها الوحي.

بل إننا واجدون العدل اسمًا من أسماء الله الحسنى وصفة من صفاته سبحانه وتعالى. وكفى بذلك دليلًا على المكان الأرفع للعدل في فكر الإسلام.

والعدل في العرف الإسلامي ضد الجور والظلم، وهو يعني جماع مزاج الإسلام وخاصية حضارته، أي الوسطية والتوازن درك بالبصيرة والذي يحقق إنصافًا بإعطاء كل إنسان ما له وأخذ ما عليه منه.

ومن هنا كان حديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، الذي عرف به الوسطية بالعدل والعدل بالوسطية: «وكذلك جعلناكم أمة وسطًا» الوسطية: العدل.

والعدل في شرعة الإسلام فريضة واجبة وليس مجرد حق من الحقوق التي باستطاعة صاحبها التنازل عنها إذا هو أراد، أو التفريط فيها دون وزر وتأثيم. إنه فريضة واجبة فرضها الله سبحانه وتعالى على الكافة دون استثناء. فرضها على رسوله، صلى الله عليه وسلم وأمره بها «فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم»،«وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير».

وهو فريضة واجبة على أولياء الأمور من الولاة والحكام «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)»

بل لقد أنبأنا الله سبحانه وتعالى أن هذه الأمانة التي فرض على الإنسان حملها وأداءها كانت هي معيار الذي يميز به الإنسان، وامتاز على غيره من المخلوقات.

«إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)»

لذلك لقد أحاطت الشريعة الإسلامية القاضي بعدة ضمانات تجعله في مأمن عند إصدار الحكم العدل الصواب من كيد الخصوم وعبثهم، ومن هذه الضمانات عدم جواز مخاصمة القاضي، وعدم مسئوليته عن خطئه..

– عدم جواز مخاصمة القاضي: يرى الفقهاء المسلمون أن القاضي العدل البصير لا تجوز مخاصمته، ولا تسمع الدعوى عليه فيما يتعلق بأحكامه؛ لأن في ذلك ذهاب بمهابة القضاء، ويجعل القاضي عرضة لكيد الخصوم.

ومع هذا إذا ظهر جور القاضي وتسلطه، واشتهر بالظلم وتظاهرت الشكاية عليه، نظر ولي الأمر في أمره، فإن كان حكمه على ما يجب من الصواب نفذ، وإن كان على خطأ وخيانة عزره ولي الأمر وعزله.

ويتبع ولي الأمر في تعزيره للقاضي الدليل والبينة.

– عدم مسئولية القاضي عن خطئه: إذا ظهر أن القاضي قد أخطأ في حكمه وجب إبطال الحكم ورد الحال إلى ما كانت عليه الواقعة متى كان ذلك ممكنًا، وأما إذا لم يمكن ذلك، أو ترتب ضرر عليه، وجب ضمان ذلك من بيت مال المسلمين ولا يسأل القاضي عن هذا الضمان.

أما إذا كان القاضي قد حكم بخلاف الحق عمدًا فعليه الضمان في ماله الخاص.

الخلاصة


القضاء من عمل الرسل – عليهم الصلاة والسلام – يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾

فهو أمر لازم لقيام الأمم ولسعادتها وحياتها حياة طيبة ولنصرة المظلوم، وقمع الظالم، وقطع الخصومات، وأداء الحقوق إلى مستحقيها، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللضرب على أيدي العابثين وأهل الفساد، كي يسود النظام في المجتمع، فيأمن كل فرد على نفسه وماله، وعلى عرضه وحريته، فتنهض البلدان ويتحقق العمران ويتفرغ الناس لما يصلح دينهم، ودنياهم فإن الظلم من شيم النفوس، ولو أنصف الناس استراح قضاتهم ولم يحتج إليهم.

وهذه الضمانات ليست مجرد حقوق من حق الفرد أو الجماعة أن يتنازل عنها أو عن بعضها. ناهيك عن كونه قاضيًا. وإنما هي ضرورات إنسانية – فردية كانت أو اجتماعية – ولا سبيل إلى حياة الإنسان بدونها.

ومن ثم فإن الحفاظ عليها ليس مجرد حق للإنسان بل هو واجب عليه أيضًا. يأثم هو ذاته – فردًا أو جماعة- إذا هو فرط فيه، وذلك فضلًا عن الإثم الذي يلحق كل من يحول بين الإنسان وتحقيق هذه الضرورات، إنها ضرورة لا بد من وجودها كي يتحقق له المعنى الحقيقي للحياة. بل إن الإسلام ليبلغ في تقديس هذه الضرورات الإنسانية الواجبة إلى الحد الذي يراها الأساس الذي يستحيل قيام الدين والدولة بدون توفرها للإنسان.

ففي شريعتنا: 

إن صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان. لأن صحة الأبدان مناط للتكليف وموضوع للتدين والإيمان.. ومن هنا كانت إباحة الضرورات الإنسانية للمحظورات الدينية. فواجب صيانة القاضي من كل ما يؤذيه أو يعكر صفوه لتسير الحياة بالعدل والحق.

إرسال تعليق

تعليق:

أحدث أقدم

نموذج الاتصال